أسهم المجتمع الدولي في تعقيد القضية السورية حتى وصلت إلى مرحلة بات من الصعب عليه تفكيكها، ويبدو أن روسيا نفسها، وهي التي تملك الجزء الأكبر من القرار الدولي بعد أن حصلت على تفويض شامل بالتصرف، باتت لا تعرف مخرجاً مما أوقعت نفسها فيه. لقد كانت تريد إعادة تأهيل النظام، وسحق المعارضة، وترى كل من يعارض النظام إرهابياً، ولكنها اضطرت بعد فشل اتفاقيتها مع الولايات المتحدة حول وقف إطلاق النار، لأن تعقد اتفاقيات خفض التصعيد مع المعارضة، وأن تكف يد النظام عن مشروعه الوحيد المسمى بالحسم العسكري، وقد أثبت فشله. وكذلك لم تعد إيران مطلقة اليد على رغم قوة التحالف الروسي الإيراني، ولم تستطع روسيا أن تقنع أوروبا بقدرتها على إيجاد حل ناجع للقضية السورية رغم حرص الأوروبيين على تجنب الصدام مع روسيا في الملف السوري. وأما موقف الولايات المتحدة فقد بقي غائماً رغم التفويض المعلن لروسيا، ولكن الروس لا يغيب عنهم خطر أن يكون هذا التفويض فخاً لإغراق روسيا في مستنقع دم يصعب أن يخرجوا منه مرتاحين. وقد تفكك الاتحاد السوفييتي كله بعد هزيمته في أفغانستان، ولا سيما أن الولايات المتحدة التي تنسق مع روسيا أو تفوضها في سوريا تعلن تهديدات إعلامية متلاحقة لإيران وتشكك في الاتفاق النووي، وهي تعلم أن إيران هي الحليف الأقرب لروسيا في المنطقة، وهي التي تضمن حماية التدخل الروسي في الأرض السورية مثلما تضمن روسيا حماية التدخل الإيراني في سماء سوريا. ويبدو الموقف أشد تعقيداً في العلاقة مع إسرائيل التي بدأت ترفض حضور إيران وحلفيها «حزب الله» على مقربة منها، وهي تطالب بالابتعاد إلى حد 45 كلم عنها، وكل ما تبديه إيران و«حزب الله» من حسن نوايا نحو إسرائيل في الدبلوماسية السرية لا يقنع إسرائيل التي تريد نفوذاً منفرداً فيما سمته المناطق الأمنية، ورفض إيران يسبب حرجاً لروسيا. وقد تمكنت بدبلوماسية متقنة أن تقنع إيران بقبول رفض الفصائل العسكرية المعارضة لحضورها كدولة ضامنة في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وساهم في ذلك تلاقي المصالح بينها وبين تركيا في الموقف من طموحات «قسد»، وكانت مرحلة إعلان الاستفتاء في كردستان مواكبة لانعقاد جولة آستانا السادسة، مما جعل الخطر دافعاً لتجاوز الخلافات الاستراتيجية وبعيدة المدى. ومع اختلاط الرؤى الغائمة مع المعطيات الثابتة (وأقصد بيان جنيف 1 والقرارات الدولية وبخاصة 2118 و2254 وبيان مؤتمر الرياض)، ظهرت حالة ضياع دولي في الرؤية، فالحديث عن مؤتمر جديد للمعارضة في الرياض، واكبه حديث روسي عن ترتيب مؤتمر مختلف في دمشق وقيل بل في حميميم. والمبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي لم تلق اهتماماً دولياً ولكن الفرنسيين يتابعون السعي فيها، وهي لم تدرس بشكل رسمي علني بعد، ولم تتضح لنا حدود توافقها مع القرارات الدولية ومع رؤية هيئة التفاوض وحدود اختلافها عنها، إلا أن الفرنسيين يؤكدون دعمهم للهيئة العليا للتفاوض (وهذا ما أكده السفير فرانك جيليه في لقائه مع الهيئة قبل أيام قليلة في الرياض)، وربما تكون رؤية الفرنسيين ذات بعد عملي ينقذ المواقف الدولية التي تدعو إلى القبول ببقاء الأسد، ولكنها تدرك أن تنفيذ ذلك سيعني فرضاً بالقوة والعنف على الشعب الذي قدم أعظم التضحيات للخلاص من استبداد الأسد وزمرته المجرمة ولن يرضخ لهذا الاستبداد ثانية. وما يتحدث عنه الروس من مصالحات جانبية الآن هو خيار الضرورة عند من يخيرون بين موت أطفالهم تحت القصف أو القبول بالتصالح، وهذه حالة يستحيل أن تستمر، ويدرك الروس أن فرض بقاء الأسد سيحفز الشعب السوري على القيام بثورته الثانية، التي ستستفيد من تجاربها السابقة ومن أخطائها لتشكل حالة شعبية سلمية يصعب التعامل معها بالعنف الأشد مرة أخرى، ويخشى الروس برحيل الأسد أن يفقدوا شرعية تدخلهم في الشأن السوري، ويخشى الإيرانيون انتهاء مشروعهم التوسعي، وهذا ما يدعو الطرفين للتمسك بالأسد ضمانة لشرعية وهمية منحها لهم النظام، وأما الأميركان فلا يملكون رؤية واضحة للحل، ومن الواضح أن لديهم فريقين مختلفين، لم ينجح أحدهما بعد في فرض رؤيته. ويبقى رهان القضية السورية مهما اختلفت الرؤى الدولية، على موقف الشعب الصامد، الذي لن يقبل بديلاً عن حريته وكرامته.