«إنهم يكرهون الأفكار المجردة، ولا يشعرون بحاجة لأي فلسلفة أو رؤية للعالم». كان هذا الكاتب الإنجليزي جورج أورويل، متحدثاً عن مواطنيه في مقال شهير له يعود إلى سنة 1941 بعنوان «إنجلترا بلدك». أورويل الذي كتب هذا المقال خلال الغارات الجوية النازية على بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، عندما كان «البشر المتحضرون جداً يحلقون في السماء محاولين قتلي»، عدّد الصفات والخصائص التي تجعل الإنجليز إنجليزاً، مثل: حبهم للخصوصية، واحترامهم الكبير للقانون الذي يكاد يبلغ درجة التقديس، وكرههم للعسكر مصدري الأوامر. وكتب يقول: «إن كل التفاخر، ورفع الأعلام، والأناشيد الوطنية.. هي أشياء تقوم بها أقليات صغيرة»، مضيفاً: «إن أكثر الملاحم إثارة للحماسة في الإنجليزية تتعلق بفرسان شنوا هجومهم في الاتجاه الخاطئ». تذكرتُ هذا المقال عندما كنت أستمع إلى الخطابات في مؤتمري الحزبين البريطانيين، العمال والمحافظين، خلال الأسبوعين الماضيين، والتي لم يبدُ الكثير منها إنجليزياً جداً، وفق تعريف أورويل. ولا ريب في أن تحول حزب المحافظين، على مدى العام ونصف العام الماضي، كان لافتا، خاصة إذا علمنا أنهم تاريخياً كانوا محل سخرية باعتبارهم «الحزب الغبي»، وهو وصفٌ قبلوه باعتباره إشادة غير مقصودة: فهم كانوا أقوياء ويمثلون أفضل عناصر المجتمع وأنبلها، كما كانوا عمليين وليسوا نظريين، وتجنبوا أوهام التقدميين (أو ما سماها أورويل «أفكاراً مجردة») لصالح سياسات رشيدة. لكن حزب المحافظين تغيّر غداة استفتاء البريكسيت. ذلك أن بعض أعضاء الحكومة ومن بينهم رئيسة الوزراء، خلصوا إلى أنه يجدر ببريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي ببطء والبقاء داخل الاتحاد الجمركي الأوروبي لأطول وقت ممكن، تجنباً لتعرفات جمركية وإجراءات بيروقراطية جمركية وحدود «مادية» جديدة عبر إيرلندا. لكن الكثير من المحافظين يكرهون فكرة التغيير التدريجي هذه، حيث ما زال البعض يتخيلون اتفاقات مربحة مع الاتحاد الأوروبي لن تأتي أبداً: فهذا ما وصفه سابقاً بوريس جونسون، وزيرُ الخارجية البريطاني، ب«الجمع بين الحسنيين»، وما يصفه الآن ب«البريكسيت المجيدة». غير أن آخرين يرسمون صورة ضبابية لدولة تجارة مرفوعة القيود ومنخفضة الرسوم، وهي فكرة تقوم على استحضارٍ خاطئ لتاريخ القرن التاسع عشر، عندما كانت بريطانيا دولة تتاجار بحرِّية، لكن كانت أيضا إمبراطورية. ففي ذلك العهد، كان البريطانيون، إذا لم تعجبهم الاتفاقات التجارية المقترَحة، يعمدون إلى محاصرة الموانئ أو قصفها. لكن ذلك لم يعد ممكنا الآن. وفي الأثناء، حرّرت البريكسيت حزبَ العمال من التزاماته السابقة بالواقعية والبراغماتية. وفي هذا السياق، كتب كاتب عمود بصحيفة «الجارديان» يقول: «لقد طبَّع المحافظون كل أشكال الراديكالية». والمستفيدون ليسوا أولئك الذين يحنّون من اليمين إلى العهد الإمبريالي وإنما حزب العمال الذي بات الآن من أقصى اليسار، وأكثر شعبية. فقبل بضع سنوات فقط، كان سيبدو لافتا إعلان سياسيٍ عماليٍ نيته إعادة تأميم أي شيء. غير أنه في مؤتمره مؤخراً، قوبل وزيرُ المالية في حكومة الظل العمالي جون ماكدونل، بالتصفيقات عندما دعا إلى إعادة «المرافق والخدمات الأساسية» إلى سيطرة الدولة. وقد أكد جيريمي كوربن، زعيم الحزب، أنه موافق على استفتاء البريكسيت لأنه يعتقد، على غرار آخرين في أقصى اليسار، أن الاتحاد الأروبي يمنع أعضاءه من تنفيذ إصلاحات اقتصادية راديكالية. لكن ما هو نوع الراديكالية الذي يقصده كوربن؟ سياسة الاتحاد الأوروبي لا تمنع أي بلد من أن تكون لديه رعاية صحية مؤمَّمة، أو شركات مملوكة للدولة، أو ضرائب يعاد توزيعها. وبالتالي، فلابد أننا بصدد الحديث عن سياسات أكثر تطرفاً من ذلك. لكن أيا تكن تلك السياسات، فمن الأمان القول إنها لن تجعل بريطانيا مثل «سنغافورة الشمال»، وربما الأفضل التفكير، بدلا من ذلك، في «فنزويلا الشمال»، أو ربما ألمانيا الشرقية. وربما كل هذه المواقف المعبَّر عنها الآن غير مفاجئة: ذلك لأن بريطانيا لم تشهد ثورة في القرن الثامن عشر مثل فرنسا، أو ثورة في القرن التاسع عشر مثل ألمانيا. كما أنها، مثلما قال أورويل، لم تتأثر بالثورات العديدة التي عرفها القرن العشرون. والآن -في القرن الحادي والعشرين– ربما يكون دور بريطانيا قد حان لكي تطيح بنظامها، وهو شيء ما كان سيثير القلق لو أن المستقبل الثوري المقترَح لم يكن متناقضاً جداً. آن أبلبوم محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»