خطاب الانقسام كان دائماً موجوداً معنا: قبيلتي ضد قبيلتك، وجماعتك ضد جماعته، وعصابتنا ضد عصابتهم. وتاريخياً، كثيراً ما كان الطغاة والمستبدون يسعون إلى استخدام الخطاب المقسم خدمةً لأهدافهم الخاصة، فيهاجمون الأعداء أو أكباش الفداء من أجل توحيد أتباعهم، أو ترهيب خصومهم، أو التمسك بالسلطة. غير أنه في أيامنا هذه ما عاد المرء في حاجة لمنبر أو عرش أو منصة للعب تلك اللعبة، فالجميع بات باستطاعته فعل ذلك الآن. أكثر من ذلك: بات بمقدور أي شخص اليوم الدخول إلى النقاش أو الخلاف الوطني أو الإقليمي أو الشخصي لأي شخص آخر والسعي لجعله أكثر سوءاً، وكل ما يحتاجه المرء هنا هو شبكة من الأتباع على فيسبوك أو تويتر، حقيقيين كانوا أم مزيفين، وبعض الإلمام بكيفية اشتغال خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي. المثال1: بهدف تقسيم الناس، أقدم جوليان أسانج من موقع «ويكيليكس»، والذي لم يسبق له أن أبدى أي اهتمام بالحياة السياسية الإسبانية، على الإلقاء بنفسه فجأة في حملة الاستفتاء الكتالاني. فاعتباراً من التاسع من سبتمبر الماضي، شرع أسانج في إرسال تغريدات على تويتر يطالب فيها باستفتاء ويهاجم الحكومة الإسبانية، وبسرعة أصبح المعلِّق الدولي الأول على الموضوع على تويتر الذي يتم تناقل وتداول تغريداته. وعلى غرار الأساليب التي استُخدمت في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، تلقى أسانج المساعدة في جهوده تلك من وسائل الإعلام الروسية الحكومية، إضافة إلى شبكةٍ من «المتصيدين» على الإنترنت والبرامج والتطبيقات المؤتمتة، التي كانت تعمل على نشر وإشاعة تعليقاته بشكل أكبر وعلى نطاق أوسع. وعلى سبيل المثال، فإن النسخة الصادرة باللغة الإسبانية من موقع «سبوتنيك» الإخباري التابع للدولة الروسية، نقلت مقتطفات من تعليقات أسانج في عناوينه الرئيسية أكثر مما فعلت مع تصريحات رئيس الوزراء الإسباني أو رئيس إقليم كتالونيا نفسه. والدوافع هنا واضحة بما يكفي: إن أي شيء يقسِّم بلداً أوروبياً هو شيءٌ جيد لروسيا. المثال2: بهدف تقسيم الناس، قفز المروِّجون لنظرية المؤامرة إلى قصة لاس فيجاس حال حدوثها وشرعوا في نشر وإشاعة معلومات كاذبة. ومن بين هؤلاء حسابٌ بدأ في الترويج لفكرة أن القاتل شخصٌ في الثانية والثلاثين من العمر اعتنق الإسلام حديثاً. ومن جانبها، حدّدت مواقعُ اليمين المتطرف على الإنترنت هويةَ القاتل بشكل غير صحيح إذ وصفه أحدها باعتباره «ديمقراطياً ومن المعجبين بالكاتبة والمعلِّقة السياسية المثلية رايتشل مادو، وموقع MoveOn.org التقدمي، ولديه علاقة بالجيش المعادي لترامب». هذا في حين سعى خطاب آخر إلى نسبة أعمال القتل التي شهدتها لاس فيجاس إلى الحركة المناهضة للفاشية، غير أن إشاعة هذه الأخبار الكاذبة والترويج لها لم يتطلب شبكة تطبيقات مؤتمتة روسية، أو على الأقل لا شيء من ذلك تم اكتشافه حتى الآن. وبالمقابل، كان من اللافت أن الإشاعات ظهرت لفترة قصيرة على رأس نتائج البحث في غوغل وفيسبوك، والتي أكدت مرة أخرى أنها غير قادرة على فصل وتمييز نظريات المؤامرة والإشاعات عن المعلومات المستقاة من مصادر جيدة. والواقع أن دوافع المروِّجين لنظريات المؤامرة ليست واضحة البتة، لكنها قد تكون شيئاً قريباً مما يلي: إن أي شيء من شأنه دعم وتقوية أحد معتقدات اليمين المتطرف هو شيء جيد له، حتى وإن اتضح أنه غير صحيح. المثال3: لك أن تختار؛ فأياً كان الشيء أو الأشياء التي تغضب وتقسّم الأميركيين والإسبان والكتالانيين –أو الفلبينيين أو البرازيليين– فثمة شخص ما في الوقت الراهن يبحث عن طريقة لجعل الأمور أسوأ، وفي مكان ما على الإنترنت، هناك شبكة سيجدها من أجل المساعدة. ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس