ثلاثة استخلاصات للحاضر
الرسالة الرئيسية لهذا المقال في هذه المناسبة، هي المقولة الشهيرة: من لا يتعلم من دروس الماضي يكرر أخطاءه. والعكس بالطبع صحيح: أي أن تعلم دروس الماضي يساعدنا على مواجهة تحديات الحاضر، وهي قاعدة تنطبق على الدول والأفراد أيضاً.
يتزامن نشر هذا المقال مع مناسبة تاريخية مهمة للعرب: أي الذكرى الـ44 لحرب أكتوبر سنة 1973، وهي في نظري مناسبة ليس للخوض في الماضي لذاته وإنما لاستنتاج استخلاصات فيما يخص الحاضر العربي، وحتى العالمي أيضاً. وبالنظر إلى حجم المساحة المتاحة هنا، فسأركز على ثلاثة استخلاصات:
أولاً: أهمية أخذ زمام المبادرة، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تكون المبادرة من حظ العرب، فعلى مدى التاريخ العسكري في العلاقات العربية الإسرائيلية كانت تل أبيب هي البادئة دائماً، ومن ذلك بالطبع مبادرتها إلى شن حرب 1967 التي سبقت حرب أكتوبر، والتي اشتهرت في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر باسم «حرب الأيام الستة»، لأن الانتصار الإسرائيلي لم يكن فقط مهولاً، ولكنه أيضاً كان سريعاً كالبرق. كانت المبادرة إذن، وعلى مر تاريخ العلاقات العسكرية في أيدي الإسرائيليين، لكن مع حرب أكتوبر انتقلت إلى أيدي العرب.
ثانياً: يرتبط بأخذ زمام المبادرة عامل المفاجأة والتخطيط الاستراتيجي المحكم. وهنا أيضاً فإن الاختلاف في سلوك العرب في سنة 1967 كان مهولاً هو كذلك. ولنتذكر فقط قرار المشير عبدالحكيم عامر، نائب رئيس الجمهورية المصري آنذاك، بانسحاب القوات المصرية في سيناء للعودة إلى قناة السويس، والذي بدلاً من أن تكون عملية منظمة لتجميع القوات والدفاع عن نفسها وحماية خطوطها، أصبحت مجرد فرار وجري فردي، حيث يحاول كل عسكري أو ضابط النجاة بنفسه، ولو على حساب زميله، والحقيقة أنه بغية كسب الحرب النفسية بعد الحرب العسكرية، قام الإسرائيليون بنشر صور مُهينة للعساكر المصريين الذي يتخلصون من أحذيتهم لكي يستطيعوا الجري بأكبر سرعة ممكنة.
ما حدث في أكتوبر كان على العكس من ذلك تماماً، حيث كان التخطيط والمفاجأة على أشدهما. وحتى عندما جاءت المعلومات للإسرائيليين والأميركيين بقرب الهجوم العسكري المصري السوري قبل حدوثه بساعات قليلة، لم يكن بالإمكان الاستعداد الكافي، وكانت النتيجة انهيار خط بارليف «المنيع»، وكذلك خسائر بشرية وعسكرية باهظة لم يشهدها الإسرائيليون من قبل. لذلك قاموا بعد الحرب بتكوين لجنة قومية للتحقيق، أطلقوا عليها اسم «لجنة التقصير».
ثالثاً: يرتبط بالعاملين السابقين عامل التنسيق بين عوامل القوة المختلفة، وفي الواقع فإن حرب أكتوبر ترتبط في التاريخ العالمي باستخدام سلاح البترول ضد الدول التي تطرفت في دعمها لإسرائيل، خاصة الولايات المتحدة وهولندا. وكان هذا التنسيق في استخدام قوة العرب الاقتصادية، بجانب العسكرية، مشهداً رائعاً لوحدة العرب التي كنا نتكلم عنها كثيراً ثم تجسدت في ذلك المظهر التاريخي. وكان ذلك أيضاً على النقيض من تجربة حرب 1967 عندما كان العالم العربي شديد الارتجال والانقسام وخاضعاً لأجواء «الحرب الباردة العربية»، مما استنزف جهودهم بدلاً من تعبئتها ضد العدو المشترك.
وبعد 44 عاماً، قد يتغير الخصم، لكن التحديات نفسها قائمة، ولا مفر من اتخاذ زمام المبادرة والتخطيط الممكن بدلاً من الارتجال، حتى نكون مستعدين وعازمين على مواجهة هذه التحديات، بل وكسب هذه الجولة أيضاً.