أصبح من المتفق عليه في الأوساط السياسية والفكرية العربية أن «جائزة الشيخ زايد للكتاب» هي أهم الجوائز العربية على الإطلاق، وأنها تمثل الحلم الذي يراود كل كاتب ومثقف وأديب عربي. ومنذ إنشائها عام 2007، كان الفوز بها شهادة بالتفوق والتميز والإبداع، وطريقاً إلى نَيل الاهتمام المضاعَف بالفائزين، وضماناً لوصول الكتب والأعمال الإبداعية التي شَرُفَت بالفوز إلى قطاعات واسعة من الجمهور المعنيِّ بحركة الفكر والثقافة في العالم العربي. لقد كان لي شرف الفوز بـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب» عن فرع التنمية وبناء الدولة عام 2016، وهو ما أعدُّه إحدى أسمى آيات التقدير والتكريم التي حصلت عليها بوصفي باحثاً وكاتباً. ولربما يجعل مثل هذا الفوز شهادتي مجروحة إلى حدٍّ ما، لكن هذا لا يمنعني من أن أتحدث عنها على النحو الذي تستحقه، وأن أظهِر بعض أفضالها على الثقافة والفكر العربيَّين. وتمثل الجائزة تعبيراً عن ثقافة المكافأة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي ثقافة متجذِّرة وسائدة في الدولة منذ قيامها عام 1971، حيث يُكافأ كل من يؤدي عمله بكفاءة وإخلاص، ويتلقى التكريمَين المادي والمعنوي معاً، اعترافاً له من الدولة والمجتمع بما قدَّم، وحفزاً على المزيد من الإخلاص للعمل، وتشجيعاً لباقي العاملين على السعي إلى نَيل التقدير من خلال عمل مبدع وجاد. وصاحب السبق في إرساء هذا التقليد هو المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه-، إذ كان حريصاً على أن يكرِّم بنفسه كل من يؤدي عمله بإتقان، وهذه بصيرة قائد يدرك الآثار الإيجابية التي ترتبط بمثل تلك الممارسة، ودورها في تنمية المجتمع وازدهاره. وقد تواصلت هذه التقاليد الحميدة بعد رحيل المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه-، إذ تحرص القيادة الرشيدة للدولة، ممثلة في صاحب السمو رئيس الدولة، ونائبه، وأعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، وأولياء العهود، على أن يسلموا بأنفسهم كثيراً من الجوائز، ليقدموا النموذج والقدوة إلى كلِّ من يشغل موقعاً من مواقع المسؤولية، وليخلقوا روح التنافس الشريف في مواقع العمل والإنتاج. وتقف ثقافة المكافأة والتكريم وراء ما تحققه دولة الإمارات العربية المتحدة من نجاحات متوالية يشهد بها العالم، ويقف لها إجلالاً واحتراماً. إن كون الجائزة تحمل اسم المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيَّب الله ثراه- يجعل الحصول عليها شرفاً لكل مثقف عربي، بحكم ما يحظى به الراحل الكبير من مكانة في الوجدان العربي. ويضاف إلى ذلك أن الإجراءات التي تُـمنح الجائزة بمقتضاها هي الأفضل من حيث دقة التقييم وحياديته ونزاهته، وتتولى عملية الفرز والتقييم التي تجرى بأقصى درجات السرية كوكبة من القامات الثقافية العربية التي أفنت حياتها في خدمة العلم والبحث، ومن المشهود لهم بالدأب والجدِّية وإعلاء الاعتبارات العلمية فوق كل ما عداها. ويضاف إلى ما سبق أن الأمانة العامة للجائزة يتولاها مثقف إماراتي مرموق وباحث كفء ومبدع وإداري قدير هو الدكتور علي بن تميم، أحد فرسان المعرفة الذين يقيمون علاقة وطيدة مع المنجز الثقافي والمعرفي العربي منذ العصر الجاهلي وحتى ما بعد الحداثة. وكان قد سبقه إلى تولِّي المنصب إعلامي إماراتي بارز يعود إليه الفضل في وضع اللبنات الأولى للجائزة، وتوطيد أركانها، ونشر رسالتها داخل العالم العربي وخارجه، وهو الأستاذ راشد صالح العريمي. وتحمل الجائزة بصماتٍ لرجل أفنى عمره في خدمة وطنه، وشيَّد في سنوات معدودة صروحاً ثقافية كبرى في إمارة أبوظبي لا تزال تحفُّها ذكراه، وهو المرحوم محمد خلف المزروعي، الذي كان عضو مجلس أمناء الجائزة، وشاءت إرادة الله جلَّ وعلا أن يرحل وهو في قمة عطائه، يصل الليل بالنهار في جهود أثمرت وآتت أكُلها، وباتت في ميزان حسناته وعمله الصالح، فجزاه الله عنها أحسن ما يجزي المخلصين والطيبين من عباده الأبرار. وتعكس فروع الجائزة شمولية النظرة التي وضعت أطرها الحاكمة، فلم تتوقف عند الكتَّاب وحدهم، بل شملت دور النشر المتميزة إدراكاً منها لتكامل الصناعة، وتعدُّد عناصرها، وأن الناشر الجيد المؤمن برسالته له دوره المحوري في النهوض بالكتاب، وفي نشر رسالة المعرفة. ويشرِّفني هنا مرة ثانية أن أقول إن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي أشغل منصب مديره العام، قد فاز بالجائزة عن فرع النشر عام 2008، وأنَّ يوم الفوز كان يوماً مشهوداً بالنسبة إليَّ وإلى كل العاملين في المركز، نذكره جميعاً بفخر واعتزاز. كذلك فإن تخصيص جائزة للمؤلف الشاب، ولأدب الطفل، يعكس اهتمام القائمين على الجائزة بالمستقبل، ممثلاً في تكريم كاتب واعد، وفتح طريق الإنجاز والإبداع أمامه، وفي تنشيط الجهود من أجل سدِّ النقص الفادح في كتاب الطفل العربي، وتشجيع الكتَّاب على أن ينتجوا أدباً وكتباً خاصة بالأطفال الذين هم عماد المستقبل وثروته الكبرى. ويأتي فرع التنمية وبناء الدولة ليكشف عن تقدير كبير لكلِّ من يسهمون في البناء وفي تنمية الأوطان وتوطيد أسس الازدهار والرخاء فيها. ومن يتابع فروع الجائزة سيرى بصمات الفكر الإماراتي واضحة فيها، فكل ما سبق هو جزء من العقل الإماراتي المؤمن بالبناء والتنمية والمستقبل وشمول الرؤية. وسيصبح ذلك واضحاً أكثر إذا أضفنا فرع الترجمة، وفرع الثقافة العربية في اللغات الأخرى، وهما بدورهما يرتبطان بشخصية دولة الإمارات العربية المتحدة المنفتحة حضارياً وإنسانياً واجتماعياً على العالم بأسره، التي ترحِّب بكلِّ من ينشد العيش الكريم على أرضها، وتحتضن الجميع في وئام ومودة. ومما يُحسَب للجائزة أيضاً أنها ملكت المرونة التي جعلتها تضيف فرعين جديدين لم يكونا موجودين في البداية، وهما الفنون والدراسات النقدية، واللغة العربية في الثقافات الأخرى. كما أضيفت آليَّة إعلان قوائم طويلة وقوائم قصيرة للجائزة، وهو ما يضمن نوعاً من الحيوية وجذب الاهتمام، لكن الهدف الأهم هو إتاحة الفرصة للجمهور للاهتمام بعدد من الكتب التي يعني انضمامها إلى القوائم الطويلة والقصيرة تحقيقها مستويات عالية من الجودة، وهو ما يتيح لها مزيداً من الانتشار والشهرة حتى لو لم تفُز بالجائزة. وكذلك لا يتردَّد القائمون على الجائزة في حجب الجوائز المخصَّصة لبعض الفروع إذا لم تُقدَّم أعمال على المستوى الذي يستحق التكريم. وحجبُ الجائزة يكون رسالة إلى الوسط الثقافي والفكري بوجود نقص كبير يجب العمل على معالجته، وتحذيراً تتلقاه الجهات والأشخاص المعنيون ليعملوا على تغطية جوانب القصور في الثقافة العربية. إن في «جائزة الشيخ زايد للكتاب» جوانب للتميُّز أكبر من أن يحيط بها المقال، لكنني يمكن أن أشير مثلاً إلى أن الجائزة الإماراتية لم يفُز بها في دوراتها السابقة إلا عدد قليل جداً من المؤلفين والجهات الإماراتية، وهو إشارة إلى أن قواعدها الصارمة لا تعرف على المحاباة سبيلاً، ولا تنظر إلى غير الجودة والتميز معياراً حاكماً. أخيراً، فقد قال أحد الفائزين بالجائزة من دولة عربية شقيقة إنها منحته الفرصة ليركز بالفعل على ما كان يريد إنجازه في مجال البحث العلمي، ولم يكن قادراً على التفرُّغ له بحكم اضطراره إلى العمل في مجالات تفرضها عليه ضرورات الحياة ومصاعب العيش، وأعتقد أن هذا هو السر في القيمة المالية الكبيرة للجائزة، إذ تسمح بنوع من الاكتفاء المادي مرحلياً لمن يبذلون أعمارهم في جهود لا تحقق في العادة مردوداً مالياً ملائماً. وتخليص الباحث من ضغوط الاحتياج المادي يجعله أكثر عطاءً وإنتاجاً. «جائزة الشيخ زايد للكتاب» واحدة من هدايا الإمارات للعالم العربي، تحمل البصمة الإماراتية المبدعة، والتقدير الإماراتي للفكر والعقل والعلم والتميز، والرغبة في أن يمتد خير الإمارات ليشمل كل زاوية من العالم العربي والعالم.