لقد كان مشهداً لا يمكن أن نرى له مثيلاً إلا في عالمنا المعولم والمتصل بعضه ببعض والمتعدد الثقافات الذي نعيش فيه. فقد ظهر «نيجيل فاراج»، المضارب البريطاني السابق بالأسهم والسندات، والداعية الأكبر للانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، على مسرح للخطابة في بلدة «فيرهوب» التابعة لولاية آلاباما الأميركية، وهو يخطب في الناس لتأييد القاضي السابق «روي مور». وقد تجنب الإشارة إلى أن «مور» الذي أُقيل من منصبه كقاض في المحكمة العليا للولاية بسبب عدم التزامه بتطبيق القانون، يمكنه أن يكون الرجل المناسب لسكان الولاية. ولم يكن لدى «فاراج» الكثير لقوله حول اقتصاد آلاباما، ولا حول المشاكل التي تعاني منها. بل قصر خطابه، بدلاً من ذلك، على دعوة الناخبين هناك لدعم «مور» وقال: «إن ذلك سيكون مهماً بالنسبة للحراك العام الذي يشهده الغرب والذي ابتدعناه وناضلنا من أجله». فأي حراك هذا الذي يتحدث عنه؟ وهل يمكن لأحد التضحية بمصالحه من أجل أولئك الذين أطلقوه؟ أو تجاهل المشاكل المحلية في وطنه تحت شعار التذرّع بالأسباب والمؤثرات الخارجية؟ لو آثرت أن تفعل ذلك فسوف يبدو وكأنك تدعو لعودة الماركسية التقليدية. وأعلن فاراج معارضته لـ«البنوك الضخمة والشركات متعددة الجنسية»، وشجب «أعداء الداخل»، وهو تعبير اشتهر الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين بترديده في خطاباته. ودعا إلى إطلاق حراك عالمي مضاد للعولمة. وإعادة تفعيل هذا الحراك حتى يستعيد قوته التي كان عليها عام 2016. و«العولمة» في حقيقة الأمر، أشبه بقصة خيالية ابتدعها المفكر السياسي والإعلامي الأميركي البارز وصاحب مجموعة قنوات «برايتبارت» التلفزيونية «ستيفن بانون»، وما لبثت أن تحولت إلى مادة يتناقلها مرتادو الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي الهواة والمحترفون في شؤون السياسة والاقتصاد. وهي ضرب من الخيال يمكنه أن يساعد على جمع الناس متعددي الرؤى والمواقف مثل فاراج ومور أو مثل مواطني «فيرهوب» و«سندرلاند»، في الفضاء الافتراضي على الأقل. لكن «مناهضة العولمة»، التي تعني بكلمة أخرى التمسك الأعمى بالوطنيّة أو الشعبوية وأحياناً «الفاشية»، أصبحت حقيقة قائمة على الأرض. وأعتقد أن هذه الحركة تسجل الآن تطوراً متسارعاً في درجة قوتها وغبائها معاً. أنظر مثلاً إلى ردات الفعل الصادرة عن مناهضي العولمة بعد الإعلان عن فوز حزب «البديل من أجل ألمانيا» القومي بنسبة 13% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية الألمانية الأخيرة، وهي النسبة التي تجاوزت ما توقعه المحللون. وبالنسبة لمعظم الأوروبيين، يُعد دعم 13% من الناخبين لحزب يدعو أحد الشركاء في تأسيسه إلى إعادة «إحياء أمجاد ألمانيا النازية»، أمراً غير مقبول ولا معقول. لكن هذا الحكم الأخير لا ينسجم مع موقف مارين لوبين زعيمة حزب «الجبهة الوطنية الفرنسية»، والتي سارعت إلى تهنئة حلفائها في «البديل من أجل ألمانيا» على نتائجه، رغم أنها تعلم حق العلم موقف النازيين ضد فرنسا أيام حكمهم (قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية). وربما كان الأغرب من ذلك أن تأتي التهنئة لحزب «البديل من أجل ألمانيا» من الأحزاب القومية اليمينية في بولندا، البلد الذي اجتاحه القوميون النازيون بكل قسوة خلال الحرب العالمية الثانية. أما في بريطانيا التي خاضت حرباً مريرة ضد ألمانيا النازية خلال تلك الحرب، فلم نسمع إلا همسات ضعيفة ومتقطعة لتهنئة حزب «البديل من أجل ألمانيا». وكان «فاراج» أول المهنئين، وهو الذي عبر لذلك الحزب عن إعجابه «بالإنجاز التاريخي» الذي حققه قبل فترة قصيرة من سفره إلى آلاباما. وكان قد سافر إلى ألمانيا قبل موعد الانتخابات لدعم حملة أحد المترشحين المناهضين للعولمة. ووراء هذه الإنجازات التي يحققها مناهضو العولمة عبر العالم، تقف بعض الأذرع الدعائية غير المرئية. وتماماً مثلما كانت منظمة «الكومينتيرن» الدعوية الشيوعية تطلق حملاتها المغرضة عبر العالم بدعم من الاتحاد السوفييتي، فإن الائتلاف «اليميني البديل» غير الرسمي في دول الغرب، يقود حملاته الآن عبر وسائل التواصل الاجتماعي لصالح الحركة الشعبوية العالمية. وخلال الحملتين الانتخابيتين الأخيرتين في فرنسا وألمانيا، كثّف «اليمين العالمي البديل» من حملاته عبر تلك الوسائل لدعم مرشحيه، بالتزامن مع حملات «الرفاق الروس»، لدرجة أدت إلى اختلاط الأمور، ولم يعد من السهل التفريق بين الخطابين لأنهما يستخدمان اللغة ذاتها. وقدم «اليمين العالمي البديل» مساعدة كبيرة لحزب «البديل من أجل ألمانيا» حتى يغزو بأطروحاته القومية المضادة للعولمة موقع «تويتر». ويبقى من الصعب الحكم على النتائج. لكن، في بعض الحملات الانتخابية التي تنظم في دول الغرب، يمكن لنسبة 2% فقط من أصوات الناخبين أن تصنع فارقاً ضخماً، وأن يكون لها تأثيرها الكبير على نشر الأطروحات التي ينشط الشعبويون والقوميون ومناهضو العولمة في طرحها. -------------------- *محللة سياسية أميركية -------------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»