كانت كينيا دائماً منذ سنوات الاستقلال الأولى مثالاً على طبيعة التنمية الرأسمالية، بل ولآثار البرامج الرأسمالية العالمية، نجاحاً وفشلاً، سواء قبل التكيف الهيكلى والسوق الحرة، وبعد سطوته في أنحاء دول القارة الإفريقية وخارجها. وكنا ندهش أن يكون ذلك عاملاً من عوامل استقرارها النسبي، رغم أنها تعرف من جذور الانشقاقات العرقية والعنصرية والقبلية الكثير، فتلكم قبائل «كينياتا الكبرى - الكيكويو)، وأخرى تتبع عائلة (أودينجا الكبير والصغير). وثمة أعراق عربية مسلمة، وأخرى«بانتوية» جنوبية..إلى آخر ما أفضى أحياناً إلى صراعات دموية جهوية معروفة.(في مرة واحدة من 2007/ 2008 شهدت ما يشبه المجزرة البشرية)، وكان مما له دلالته أيضاً أنها لم تنته إلى تفتت وطني مدمر بقدر ما أدت إلى توافق دستوري، يرأس زعيم منهم الجمهورية (أوهورو كينياتا)، ويرأس الآخر رئاسة الوزراء (راليا أودينجا)، ويتراضى ثالث بمنصب نائب الرئيس. لم تمض أكثر من أربع سنوات على كينيا حتى شهدت انتخابات جديدة (8 أغسطس 2017) تزيد فيها نسبة حضور الناخبين عن 70%، بعد أن صفيت النفوس بسقوط قضية المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس، وتشهد نحو (50) دائرة انتخابية انتخابات برلمانية موفقة، ولا خلاف في أي دائرة يثير الإزعاج، وتحظى المرأة فيه بدورها بسبع وأربعين دائرة انتخابية من بين 365 نائباً. فجأة تعلن«اللجنة الوطنية للانتخابات» أن الانتخابات التي جرت باطلة، وأنه لابد من إعادتها بعد شهرين، وذلك عقب تقدم زعيم المعارضة (أودنجا) للمحكمة العليا بشهادات تدل على التلاعب والتزوير..الخ. ولولا ضيق المساحة لعرضت بعض الدلائل المقدمة عن الاستمارات المضافة، والأختام المفقودة.. ما يثير الدهشة بحق إلى حد صدور الحكم بهذه السرعة، وتسليم الحزب الحاكم (حزب التحالف) الحكم بنفس السرعة. الإشارة الأولى تقول إن ثمة قوى سياسية اقتصادية متوازنة في المجتمع تريد أن تحافظ على استقرارها، واستمرار توازن القوى بينها، وأن ذلك ما ثبت حتى الآن في كينيا، وقد رأينا نحو 200 حزب سياسي مسجل ينتظمون في تحالفات تجمع معظمهم حتى ليظن المرء أن كل قرية، (أو قُل مجموعة قبيلة صغيرة)، كانت تشكل حزباً تمارس به ضغطها السياسي الخاص مع أي قوى طامحة في الانفراد بالسيطرة، وهذا ما جعل قوة ليست صغيرة مثل (الكالنجين) تدخل قتالاً مريراً ضد«الكيكويو» (الحاكمين)، هو الذي شكّل مذابح 2007/ 2008 رغم زعامة قبيلة (اللو) للقوى المعارضة، لكن داخل المعارضة نفسها توجد من الحسابات، ما يجعل لبعضها طموحها الخاص. كينيا خلال شهري انتظار انتخابات الإعادة في أكتوبر القادم معرضة لأن تشهد مظاهر كبيرة الدلالة. إما أن يحكمها التعقل الرأسمالي الذي نفهمه عن قوانين الرأسمالية الحديثة، وإما أن تُبقي منطق الرأسمالية الهشة التي لا نعرف غيرها في بلدان العالم الثالث ليستمر عالم تاريخي قبلي وعنصري تعرفه هذه المنطقة منذ حرب التحرير وقيادة كينياتا. وفي تقديري الذي لا يخلو من تخمين أن عناصر كثيرة أضحت تحكم احتمالات السلام في كينيا – مهما كان من بعض التوترات – وأن على أي طرف عربي له رأسمال حي في هذه المنطقة أن يساهم في تحقيق هذا السلام في منطقة حيوية لنا جميعاً. فكينيا من أكبر مواقع الاستثمار في القارة بعد جنوب أفريقيا، وهي أيضاً من أكبر المواقع التي تتطلع لها الصين، وتربط مشروع سكك حديد كبير بينها وبين جنوب السودان ورواندا وأوغندا الحديثة، ومشروعات الصين هنا لها صلة بالمحيط الهندي وطريق الحرير الممتد إلى قناة السويس. وكينيا عنصر فاعل وأساسي لمصر في منظمة«كوميسا» (السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا)، ولها مشاكل تتعلق بسدود المياه على حدودها مع إثيوبيا. وأظن أن مصر والدول العربية كلها ستلتقط الأنفاس من مشاكل سوريا والعراق واليمن، لتفكر مثل الأميركان في اللجوء إلى أفريقيا، ومن ثم يتوجب على الجميع أن«يعطوا صوتهم» مبكراً لمصلحة استقرار كينيا.