تطبّع عدد من الدول العربية والإسلامية بطابع علماني بدرجات مختلفة، كما في مصر ما قبل عبدالناصر، والعراق ما قبل إسقاط صدام، وسوريا ما قبل «الربيع»، وتونس ما قبل فرار بن علي، وإيران ما قبل مجيء الخميني، وكذلك تركيا وإندونيسيا.. فماذا حدث؟ السّادات أكمل الابتعاد عن قيم العلمانية وفرش السجاد للإسلاميين وأطلق على نفسه اسم «الرئيس المؤمن»، وصدّام جلس يخيط راية الدين قبل سقوطه، ثم تسلّم الراية إسلاميو الشيعة والسُّنة، وسوريا أصبحت ساحة حرب بين أصحاب البراميل وأصحاب السراويل، أما تونس فرغم أن إرث بورقيبة لا يزال في الحفظ والصون، فمصير هذا الإرث غير معلوم بدخول «الإخوان» ضمن الورثة، وخروج إخوتهم الجهاديين في كل مكان مثل الفطر. أما تركيا، معقل العلمانية في المنطقة، فتحاول تغيير جلدها منذ أن قرر أردوغان تنصيب نفسه عرّاباً للإسلام السياسي، وإيران سقطت كلياً في غياهب الظلام قبل عقود حين أعلن الخميني نفسه ولياً لأمر المسلمين، وإندونيسيا تسير بخطى صغيرة لكن ثابتة نحو الأسلمة المجتمعية، كما لاحظ ذلك أوباما الذي أمضى صباه في ربوعها. ماذا يعني هذا؟ في رأيي أنه يعني أمرين، الأول أن العلمانية تتهاوى إذا لم تكن لديها قاعدة شعبية، ففي العراق وسوريا ومصر، كانت النخب علمانية الرؤية، وتلاشت التجربة بذهاب أصحابها، والأمر الثاني أن العلمانية مهددة دائماً ما لم تُؤسَس على أرضية من الموروث الديني والاجتماعي والثقافي، فرغم أن أجيالاً من شعوب إيران وتركيا وإندونيسيا كانت علمانية الطابع، فقد كان الموروث المضاد كامناً طوال الوقت في خلفية الرؤوس، وفي اللحظة المناسبة، تقدم الصفوف وأزاح العلمانية، أو صار يزاحمها. وفضلاً عن الموروث، فمن سوء حظ العلمانية أن لها خصماً لا يخشى في مصالحه لومة لائم، ويستخدم ضدها خناجر التكفير وألسنة التحريض، إذ إن المعركة مع العلمانية حياة أو موت بالنسبة للإسلاميين، فإما أن تنتصر عليهم وتركنهم جانباً، أو ينتصروا عليها وينشروا الرايات السود. ومع هذا، لو لم تتورّط الأنظمة في العراق وسوريا في إذلال الرقاب، ولو لم تتطرف إيران وتركيا في الأخذ بالعلمانية كردّ فعل على التغوّل الديني، وضيّقت من الحرية الدينية بدلاً من ضمانها لكل الناس.. لربما كانت العلمانية مزدهرة إلى يومنا هذا، لكن من شأن الحكم بأسلوب العصابات، والتضييق على تديّن الناس، إضعاف شعبية العلمانية فوق ضعفها، وتقوية حظوظ خصومها فوق حظوظهم. نجاح العلمانية مرهونٌ كما أعتقد بالحكم الرشيد، وبالاعتدال في التطبيق، وبإعادة التعرّف عليها بعيداً عن رأي أهل العمائم، أو حتى بعض المثقفين المتطرفين، وبالعامل الرابع الأهم برأيي، وهو الإصلاح الديني، إذ سعي النخبة يذهب سدى عند محاولة بذر العلمانية في تربة لا تتقبّل مفاهيم ذات مكونات قد تبدو غريبة، فحتى حين تنجح في بلد ما، فإنها تكون مثل الطبقة الرقيقة فوق التراث، ولا تكون ذات جذور تتصل بالتراث نفسه. فالتراث، كما يمكن استغلاله لدعم دولة لا تعترف بمواطنة ولا بحدود ولا بنظام دولي، فيه ما يدعم فكرة الدولة المدنية التي يكون فيها الدين شأناً خاصاً، ودور العبادة محراباً لمناجاة الخالق وليست منابر لنشر الأيديولوجيا، وحقوق وواجبات المواطنين متساوية بغض النظر عن معتقدهم الديني، والدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، ترعى شؤونهم الدينية، وتضمن لهم حرية المعتقد والضمير.