يحاولون في الدوحة التأكيد على أن الأزمة التي أوقعوا أنفسهم بها أزمة سياسية فحسب، فمرة يتحدثون عن السيادة، ومرة عن حرية التعبير، ومرة عن فبركات مزعومة، في حين أن جوهر الخلاف معهم هو حول الرؤية، والمستقبل، والمصير، والذي عبّر عنه السفير الإماراتي في واشنطن، حين سُئِل في برنامج تلفزيوني عن المشكلة مع القطريين، بـ«الخلاف الفلسفي». الخلاف فعلاً حول الرؤية التي تحتاجها منطقة الشرق الأوسط: رؤية قطر التي تقوم على تسميم الجو بالكراهية، وزرع الأرض بالفتن، والتبرير للعنف، ونشر التشدد، ودعم الإرهاب بالوسيلة المتاحة، أم رؤية أخرى تركز على التنمية، والرخاء، والازدهار، وثقافة الحياة، وتنتشل هذه المنطقة وتلحقها بركب الحضارة الحديثة؟ الخلاف مع قطر، كما ذكر الكاتب السعودي عبدالله ناصر العتيبي في مقالة له وهو يعلق على كلام السفير الإماراتي، هو في «أن السعودية والإمارات ومصر والأردن تريد علاقات (معلمنة) مع بقية دول المنطقة، وليست مثل قطر وإيران اللتين تسعيان لإلباس علاقاتهما البينية مع دول المنطقة بلبوس الأيديولوجيا. إيران تريد أن تسيطر على المنطقة من خلال نشر رؤيتها الدينية التي توجب الخضوع للمرشد الأعلى، وقطر تريد أن تخترق المنطقة بأدوات منهجية (إخوانية) تجعل من الدوحة مرجعية عليا لدول المنطقة كافة!». الاتجاه الذي تسير فيه قطر واضح، والاتجاه الذي تسير فيه الدول الأخرى واضح أيضاً، مع اختلاف طبيعي فيما بينها حول وتيرة الخطوات وسرعتها، نظراً لاختلاف نوعية وحجم التحديات التي تواجه هذه الدول. لكن السؤال الذي يستحق النقاش هو: أيّ الرؤيتين هي ما تحتاجه منطقة الشرق الأوسط فعلاً؟ للإجابة على هذا التساؤل نسأل أنفسنا: ما نوعية الأفكار التي كانت سائدة في هذه المنطقة خلال العقود الماضية؟ هل كانت ثقافة الموت هي الرائجة، أم ثقافة الحياة؟ هل كنا نسمع دعوات الانغلاق والتقوقع، أم دعوات الانفتاح على العالم؟ هل كان الآخر هو الجحيم والمتآمر، أم كان مجرد مختلف يمكن الجلوس معه والتفاهم حول المشتركات؟ هل كانت نظرية المؤامرة مهيمنة على العقول، أم نظرية العالم المفتوح الذي يسع كل من يترك الثرثرة واللطم ويسعى في الإنجاز والعمل؟ هل كان الخطاب يدعو للمضي قدماً بأفكار جديدة للمستقبل، أم كان يدعو للذهاب للمستقبل بأفكار القرون الوسطى؟ هل كانت الشعارات والخطب أكثر، أم الاستراتيجيات والخطط وبرامج العمل؟ هل كان التباكي على الماضي التليد يشغل الناس، أم السعي نحو تحسين الحاضر والتطلع إلى الغد؟ هل كانت الدموع تذرف على وهم «الزمن الجميل»، أم على الحقائق المرّة على الأرض؟ هل كان يُنظر للمرأة كشريك للرجل في بناء المجتمع، أم مجرد تابع له تسهر على راحته؟ هل كان للعلم الكلمة الأخيرة في شؤون الحياة، أم لأقوال رجال الدين؟ هل كانت الهوية الوطنية التي تجمع أبناء الوطن الواحد تأتي أولاً، أم الأفضلية كانت للهويات الأخرى التي تخلق الانقسامات؟ هل كان الحلم في بناء الدولة الوطنية القوية، أم في بناء دولة خرافية باسم الخلافة؟ وما محصلة تلك الأفكار والنتيجة التي انتهت إليها المنطقة؟ وهل ما تطرحه قطر اليوم يختلف عمّا كان سائداً طوال الوقت؟ ولم الإصرار على أفكار ثبت أنها أدت إلى خراب هذه المنطقة وفشل الكثير من دولها، وعدم إعطاء الأفكار الأخرى الفرصة لإحداث النقلة والتغيير؟ ولم الاستمرار في تجريب المجرب الذي ثبت مراراً وتكراراً أنه يؤدي إلى النتائج نفسها؟! ‏?