تقوم اللغات، مثل الاقتصاد، بعملية توحيد لعناصر متنوعة في الأمم المختلفة، تكاد تزيح أحياناً البعد الثقافي البحت، نتيجة التفاعلات الداخلية بين هذه العناصر المختلفة في الأمة. وكان الاعتراف بالتنوع اللغوي سهلاً في عصر الإمبراطوريات، مع استمرار محاولات الهيمنة لواحدة من اللغات المرتبطة بالحضارات الكبرى، لكن هذا الاعتراف بالتعدد اللغوي أخذ في الانكماش بعد التوسع الاستعماري. وعرفت الإمبراطورية العثمانية هذه المشكلة لوقت طويل، دون أن تتقبل كثير من شعوبها، خاصة العربية، فرض اللغة التركية، وظلت السلطة العثمانية محتفظة بمبدأ الفرض بين نخب الإدارة والجيوش دون أن تستطيع الوصول للقواعد الشعبية خارج حدودها القومية. والدرس نفسه مطروح على قيادات الثقافة العربية، فقد جاء عليهم ردح من الزمن القومى لم يتصوروا فيه مكاناً لأي من اللغات الأخرى، رغم اطمئنان الثقافة الإسلامية والعربية إلى استقرارها إلى جوار المحاولات القومية الأخرى، فلم يكن ظهور نزعات لغوية إلى جانب العربية يضر بالثقافة الإسلامية في أي موقع، إن في أقصى مغارب العالم العربي أم في أقصى مشارقه، ومع ذلك فقد تشددت بعض المصادر العربية في الرفض حتى واجهت مشاكل حادة لم تجرِ محاولات علاجها إلا مؤخراً، وفي بعض المناطق فقط، عبر القبول ودياً أو بالضغط الشعبي. والحق أننا لم نعرف سبباً للتشدد العربي في هذا المجال إزاء استقرار العربية الفعلي، والاعتراف بها في المحافل الدولية، بل وكتابة كثير من اللغات الكبرى بالحرف العربي، في مناطق واسعة من قارتي آسيا وأفريقيا. وفي هذه الأخيرة، هناك ما يسمى «العجمي»، أي كتابة اللغات الأفريقية بالحرف العربي، مثل الهوسا والسواحلية والبولارية والولوفية.. قبل أن يفرض الاستعمار الأوروبي الحرف اللاتيني على تلك اللغات. ومثل هذه المشكلة واجهتها جنوب أفريقيا عند فرض الأقلية الأوربية المستوطنة (الأفريكانرز) Africaners) للغة «الأفريكانز» (Africaans) على أكثر من عشر قوميات تاريخية ذات تراث ونفوذ مثل «الخوسا» و«الزولو» و«الميتابيلى» و«السوتو» على الأقل، لكن زحف المستوطنين، ومقاتلتهم حتى للإنجليز (حرب البوير أول القرن العشرين)، ثم فرضهم لدولة الآبارتايد (1948) جعلهم يتصورون أن لغتهم المسماة «الأفريكانز» يمكن أن تكون هي اللغة القومية للبلاد، بل وأن تصبح عالمية، خاصة بعد أن نجحوا في أن يجعلوها لغة علمية خاصة بالطب الذي اشتهروا بالبراعة في علومه. لكن التحول الديمقراطي الذي فرضته شعوب جنوب أفريقيا منذ أول تسعينيات القرن العشرين جعل قرار اللغات في أيدى هذه الشعوب، حيث تم الاعتراف بإحدى عشرة لغة في البلاد في مقدمتها اللغات الكبرى السابق ذكرها. ولأننا في عصر العولمة والوطنية في الوقت ذاته، فقد اتجه الجميع إلى استخدام اللغة الإنجليزية لتجاوز مشكلات التنافس المتعدد الأطراف من جهة، والدفع بقومية الدولة ونفوذها الإقليمي والقاري دون تنافس من جهة أخرى. والطريف أنني حين كنت أعد دراستي عن تراث اللغات الأفريقية بالحرف العربي (العجمي)، وحصرت ستة عشر لغة في هذا الصدد، فوجئت بوجود نصوص من لغة «الأفريكانز» مكتوبة بالحرف العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكانت سائدة بين السود والآسيويين أكثر من الأوربيين كشفرة سرية للتحركات الوطنية أو الدينية، وإذ بالمستوطنين يستخدمونها بدورهم لفترة بحرفها العربي ثم يحولون كتابتها إلى الحرف اللاتيني، وينقلونها لتكون عالمية! وقد حصلت بالفعل في «كيب تاون» على نصوص دينية إسلامية وأخرى في الشأن الاجتماعي مكتوبة بالحرف العربي، فكان ذلك مفاجأة كبيرة بالنسبة لي، لكنه دليل آخر على أن عالم اللغة متطور من المحلي إلى القومي فالعالمي، وهو ما أتمنى أن يتأمله جيداً المثقف والفاعل الثقافي العربي، كي نطرح اللغة العربية بشكل مناسب وقويم، مهما كان تقبلنا للغات المحلية و«الأجنبية» الأخرى.