قرار الرئيس الفرنسي دعوة رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب لحضور الاستعراض العسكري الذي أقيم يوم 14 يوليو بباريس، احتفالاً بالذكرى المئوية لإرسال جنود أميركيين إلى أوروبا للقتال إلى جانب فرنسا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى.. فاجأ العديدَ من المراقبين وأثار انتقادات البعض. فمنح هذا الشرف لرئيس دولة اختار الانسحاب من اتفاق باريس لمكافحة الاحتباس الحراري، بدا للبعض مجانباً للصواب. فبذلك الانسحاب لم يعارض ترامب فرنسا فقط، وهي الدولة الراعية للاتفاق المناخي، وإنما عارض المجتمع الدولي ككل. لكن ماكرون صرّح بأنه لن يفقد الأمل في إمكانية إقناع ترامب بتغيير رأيه. وإذا كان صحيحاً أن هذا الأخير عوّدنا على تعديل مواقفه جذرياً بشأن بعض القضايا، فإن ذلك من غير المرجح أن يحدث هذه المرة لمجرد أنه مشى على شارع الشانزليزيه يوم 14 يوليو. والواقع أن ماكرون يتطلع إلى هدف آخر، ألا وهو إظهار أنه يسخّر كل الوسائل الممكنة من أجل إقناع ترامب بأهمية الاتفاق، وتحميله في الوقت نفسه المسؤولية في حال فشل في هذا، وإلى ذلك، فإنه يريد أن يُظهر للشعب الأميركي أنه ليس مناوئاً للولايات المتحدة، وأن كل ما هنالك هو أن لديه اختلافات في وجهات النظر مع رئيسها، وهي اختلافات يتقاسمها مع العديد من المواطنين الأميركيين أصلاً. وقد قرر ماكرون ألا يدخل في مواجهة مع ترامب على اعتبار أن ذلك لن يعمل إلا على دفعه نحو التمسك برفض الاتفاق أكثر، وبالتالي الإتيان بنتيجة عكسية تماماً. وبالمقابل، يحاول ماكرون ملاطفة ترامب وملاينته، مع الإبقاء على الحزم والصرامة بخصوص مواقفه، وفضلاً عن ذلك فإن الخلافات بشأن المناخ أو مواضيع أخرى، لا تلغي الدور التاريخي الذي اضطلعت به الولايات المتحدة من أجل إنهاء المجزرة الكبرى التي مثّلتها الحرب العالمية الأولى. ومن خلال توجيه الدعوة لترامب، يتموضع ماكرون في وسط الساحة الدبلوماسية، مضاعفاً لقاءاته مع كبار زعماء العالم بعيد وصوله إلى قصر الإليزيه بوقت قصير، فقد استعمل الطريقةَ نفسها من خلال توجيهه الدعوةَ إلى فلاديمير بوتين لحضور معرض أقيم بقصر فرساي احتفاءً بمرور ثلاثمئة عام على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وفرنسا. والواقع أن العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة تتميز بالتعقيد منذ وصول الجنرال ديغول إلى السلطة في عام 1958. فخلال الحرب الباردة، كانت فرنسا الممتلكة للسلاح النووي تَعتبر أنها ليست بحاجة للحماية الأميركية من الاتحاد السوفييتي، خلافاً للبلدان الأوروبية الأخرى. ونتيجة لذلك، كانت باريس تستطيع في أحيان كثيرة مقاومة واشنطن ومجابهتها حين ترى ذلك ضرورياً للدفاع عن مصالحها أو حتى من أجل قضية عامة على غرار معارضتها اللافتة لغزو العراق عام 2003. غير أنه إذا كانت فرنسا غير منحازة للولايات المتحدة، فإنها تظل مع ذلك حليفة لها حيث تحرص على التدخل بشكل منتظم إلى جانبها بخصوص العديد من القضايا الاستراتيجية. وخلافاً لما نسمعه أحياناً، فإنها لا تتبنى مواقف تنهل من «معاداة ممنهجة للولايات المتحدة». إلا أنه يصعب على الولايات المتحدة أحياناً استيعاب الفرق بين «حليف» و«منحاز»، لأنها كثيراً ما تؤوّل الاختلافات في وجهات النظر على أنها عدم تضامن. وعلاوة على ذلك، فإن ترامب أقل ميلاً من أي شخص آخر لقبول وجهة نظر مختلفة عن رأيه، غير أنه سيتعين عليه أن يتعوّد على ذلك لأن الرئيس الفرنسي سيفقد مصداقيته الدولية والوطنية في حال تنازله. وتأسيساً على ما تَقدم، فإن توجيه الدعوة إلى ترامب من أجل حضور استعراض الرابع عشر من يوليو، هو أبعد ما يكون عن ترجمة لرضوخ من الرئيس الفرنسي لنظيره الأميركي، وإنما هو، على العكس من ذلك، وسيلة للتأكيد على استقلاليته. وقد أعلن ماكرون أن فرنسا ستنظم مؤتمراً حول الاحتباس الحراري في ديسمبر المقبل. وإذا غاب ترامب عن هذا المؤتمر، فبوسعنا القول إن سياسته ستكون محل انتقاد كبير جداً. والأكيد أن ابتسامات ماكرون تجاه ترامب ستكون مقرونة بحزم شديد.