أن يكون المرء في جوهانسبرج، ويحضر في جامعتها العتيدة، التي اشتهرت بأنها كانت جامعة المستوطنين البيض، حواراً حول حركة الوحدة الأفريقية Pan Africanism، فإن ذلك يعتبر ضرباً من الأحلام الجديدة في هذه القارة، ينطلق من بلد كنت فيه منذ بضع سنوات، وهناك بينهم من يقول أنا ذاهب لأفريقيا! لكن جنوب أفريقيا تبدو ماضية بسرعة في عدد من المجالات، وأن الخوف الرئيس ما زال على مستقبلها الاقتصادي. لكن الأحلام تحتاج للمغامرين دائماً، مثلما حلموا يوماً أن يزيحوا النظام العنصري أو «الأبارتهيد»، ثم أصبح رئيسه المتغطرس عام 1991، نائباً للرئيس السجين آنذاك مانديلا كما أنهم الآن ينتقلون بشكل ما من حلم جنوب أفريقيا النافذة اقتصادياً.. لحلم العمل السياسي في القارة، بالثقافة، ونمذجة «الديمقراطية الأفريقية» واستمرار تحريك الطاقات ذات السمعة القارية مثل «ثابومبيكي»، «ومسز زوما» كما يشيرون لها كرئيسة محتملة عام 2019. في هذا الجو حشدت الجامعة، وباسم معهد جديد أنشأته «للفكر الأفريقي الوحدوي» وحواراته، حوالي ثلاثين مثقفاً من أنحاء أفريقيا، مع عناية بتمثيل الدياسبورا، فيما أسموه «المحفل الأفريقي للفكر الوحدوي وحواراته» Pan African Pantheon، وأعلنوا هدفاً له «تحرير المعرفة بأفريقيا»، بل وتنعقد الندوة الأولى بحضور هذا العدد في 16 يونيو، ذكرى انتفاضة «سويتو» عام 1976 بقيادة «ستيف بيكو» زعيم الشباب في ذلك الوقت، والذي يبعث اسمه وذكرى الانتفاضة حركة الشباب والعمال حالياً كمعارضين في أنحاء مختلفة من البلاد، قال أحدهم إن ثمة مقولة بينهم تذكر أن «صفحة من التاريخ تساوي عشر مجلدات من المنطق»! وتخوف آخر من أن تذكر مثل انتفاضة «سويتو»، قد يثير الأوجاع ثانية حول الأوضاع الراهنة التي تعاني منها فئات اجتماعية عديدة، تتجاوز «أوجاع التعليم» التي أثارت الانتفاضة السابقة. تناقشنا كثيراً حول أحلام إقامة مجتمع مدني أفريقي، تقدمي، وله قضية داخل القارة ومعروف بأن لديه فكرة الوحدة، وتناقشنا حول دور لأبناء «الدياسبورا»، أو المهجر، لا يُستغلون خلاله لمصالح معادية هناك، وإنما يثري حركة الفكر والاستثمار في القارة نفسها.. وتذكر بعضهم «حالة أوباما» التي يعتبرونها نموذجاً للاستفادة من الحركة الأفريقية، وأشواق الأفارقة، ليخدم بها سادة، أساؤوا لأبناء القارة وجعلوا من تلاه «ترامب» يوجه أوضاعهم، بما لا يعرفون مصيرهم معه! لكن مثال «ترامب» أثار جانباً آخر من العملة، حول تمييز الوضع والعملية الديمقراطية في جنوب أفريقيا عنها في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.. حتى والجميع يعي أن الرئيسة المحتملة 2019 هي زوجة الرئيس الحالي السابقة، لكنها تفرض نفسها بسلوك سياسي متميز، ترفض به قيادة منظمة دولية، لتعود تمهيداً لرئاسة الحزب 2018، ليقودها للرئاسة 2019..! فأي خيال هذا.. لكن المنافس القوي والمحتمل أيضاً هو «سيريل راما فوزا» نائب رئيس حزب «المؤتمر» الحالي، والنقابي العتيد فترة النضال الوطني، والذي ترفضه الحركة العمالية المستقلة حالياً لخيانته لمطالب العمال، وتمثيله للرأسمالية البيضاء والأجنبية.. ومنافس «زوما» الرئيس القائم من قبل. وإدارة المعركة حتى بجزئها العائلي تفوق في رموزها ودلالاتها بكثير ما يجري في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً! لذلك بدت حوارات الندوة حول مستقبل الوحدة الأفريقية على مستوى القارة أيضاً مرتبطة أساساً بمستقبل الديمقراطية في مناطق القارة المختلفة، بل ومستوى الاستقرار السياسي في هذه المناطق، وهنا لفت بعضهم النظر إلى أن الجنوب الأفريقي عموماً، لا يشهد اضطرابات مدمرة على نحو ما نرى في مناطق تتسم أكثر «بالعربية»! فليس في الجنوب الآن، الهياج أو التنافس حول الإرهاب، ولا وقائعه نفسها، وليس ثمة خلاف في التنظيم الإقليمي مثلما نرى في الجامعة العربية والخليج، وليست ثمة قلق معظم الحكام على مواقعهم! وعندما وجدت المسألة محرجة لي بهذا الشكل، وأنا الوحيد من الشمال الأفريقي. تصورت أن ينقذني الهجوم بدل الدفاع! فتساءلت عن غياب تمثيل الشمال، بل وغياب رموزه في مسألة الوحدة الأفريقية مثل عبدالناصر ومحمد الخامس، بين قائمة الرموز العديدة من مناطق القارة، والدياسبورا، وحتى تقديرهم العالمي لسمير أمين الذي كنت أتحدث عنه لم يشفع لي كثيراً. والواقع أني رأيت استحضار مجموعات المثقفين للغياب العربي عن العمل الأفريقي الثقافي والفكري بالغ الظهور، والتحدي، والحرج.. ولا أنكر على القارئ العربي أن مستوى الثقافة الحديثة، عالي المستوى في مثل هذه المنتديات الأفريقية أصبح محرجاً عند مقارنته بالحالة العربية، التي تتوقف عند الماضي بمفهوم غريب له خلافاً للأسلوب الأفريقي في هذا المجال، ثم لا ندفع بجديد، إزاء موقفنا الدفاعي عما يحدث على أرض الواقع، بينما الناس في هدوء الجنوب الأفريقي والأحلام الجديدة في الوحدة، سيكونون غالباً بعيدين عن العرب.