رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي تجد نفسها أمام برلمان لا تحظى فيه بأغلبية وبلد منقسم. والرئيس الأميركي دونالد ترامب يحكم الولايات المتحدة بجانب كونجرس من الصعب عليه أن يجيز تشريعاً. وفي كلا البلدين، تتمتع الحركات والأفكار من أقصى اليمين وأقصى اليسار بعدد من المعتنقين أكثر من أي وقتٍ مضى، والجدل السياسي غاضب ومترع بالكراهية والعنف. لكننا على الجانب الآخر نجد الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون يوشك أن يحقق إنجازاً استثنائياً. فحزبه الوسطي الجديد تماماً «الجمهورية إلى الإمام» يمضي نحو تحقيق أغلبية كاسحة غير مسبوقة في البرلمان الفرنسي. ويرجح أن يُعاد انتخاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لفترة ولاية ثالثة في سبتمبر من ناخبين مازالوا يؤيدون الأحزاب الوسطية بأعداد كبيرة. وحتى في إيطاليا التي كثر الحديث فيها عن تصاعد شعبوي، رفض الناخبون المرشحين الشعبويين في انتخابات محلية في الآونة الأخيرة. لقد أُشيع أن أوروبا القديمة تحتضر، وأنها أصبحت «جثة» لم يرد مؤيدو الخروج البريطاني أن يكبلوا أنفسهم بها، ولكنها أصبحت الآن فجأة غير ذلك، بل أصبحت تبدو أكثر استقراراً وأملاً ووئاماً. وهناك حديث عن الإصلاح والتجديد وليس الثورة؛ والنمو يتصاعد. ولم يتحقق تصاعد اليمين المتطرف المتوقع. وباريس وبرلين متحدتان وواثقتان، بينما واشنطن ولندن منقسمتان ومعرضتان لخلل وظيفي. فهناك شيء فاسد في العالم الأنجلو ساكسوني في محوره الأميركي البريطاني. وهنا بعض التخمينات عن أسباب الفساد: - عدم المساواة: يمكن القول إن بريطانيا والولايات المتحدة بهما مستوى أعلى من عدم المساواة عن معظم بقية دول العالم المتقدم، وبالتأكيد أعلى من ألمانيا وفرنسا. ورغم أنه من الصعب إثبات تصاعد عدم المساواة- فبعض المعايير تشير إلى تقلص عدم المساواة بالفعل منذ عام 2008 - لكن المفهوم عن عدم المساواة قوي في كلا البلدين. وهذا لأن كلا البلدين سمح بظهور الأقلية الثرية صاحبة النفوذ السياسي (الأولجاركية) مع منح المديرين التنفيذيين رواتب عالية وانتشار المساكن الفارهة والحضور المهيمن لأصحاب المليارات في وسائل الإعلام والسياسة، ربما أثر كل هذا أيضاً على الطريقة التي يصوت بها الناس. - ضعف الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية: يمكن القول أيضاً إن بريطانيا والولايات المتحدة تنفق أقل نسبياً في هذا المجال. والولايات المتحدة في الطرف الأدنى وبريطانيا أقرب إلى الوسط، ورغم أنها أقل من ألمانيا وفرنسا. وهنا مرة أخرى قد تكون المفاهيم مهمة. وفي الولايات المتحدة، أدى الجدل بشأن الرعاية الصحية إلى التشدد في هذه القضية. وميزانيات التقشف في بريطانيا، رغم فشلها في القضاء على العجز في الميزان التجاري، قلصت الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية بدرجة ملحوظة. - اللغة الإنجليزية: الواقع أن استخدام الإنجليزية كلغة للتجارة العالمية ممتاز للتجارة في الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنه جعل الاقتصاد والسياسة لكلا البلدين أكثر انفتاحاً على التأثيرات الخارجية، وأصعب في إخضاعه للوائح وربما لهذا أكثر هشاشة. وأصبحت الإنجليزية لغة الثورة الرقمية والإنترنت، ثم استخدمت التكنولوجيا الجديدة أولاً في الولايات المتحدة وبريطانيا والتجريب صحي، لكنه قد يخلق ارتباكاً وتعاسة. والجاذبية الاستثنائية غير المتوقعة للحنين إلى الماضي في كلا البلدين إلى خمسينيات القرن الماضي إلى «زمن أبسط»، ربما يعكس الشعور بالاضطراب الشديد في الآونة الأخيرة. - تأثير الخروج البريطاني وترامب: على عكس التوقعات، أدى الاستفتاء على الخروج البريطاني والاضطراب في السياسة البريطانية إلى صعود في الدعم للاتحاد الأوروبي ولسياسات الوسط عبر القارة. وقوض وصول الرئيس ترامب إلى السلطة والفوضى في البيت الأبيض الدعم للأحزاب التي تعتبر حلفاءه. وجاء أداء «نوربيرت هوفر» في النمسا و«خيرت فيلدرز» في هولندا ومارين لوبان في فرنسا أقل من المتوقع في الانتخابات في الآونة الأخيرة. واليمين المتشدد فقد زخمه في ألمانيا أيضاً. - التصويت: ففي عصر التغير السياسي، يؤدي التمثيل النسبي والأنظمة المختلطة إلى ظهور طائفة أوسع وأكثر مرونة من الأحزاب السياسية مقارنة بتلك الموجودة في الأنظمة الأنجلوسكسونية ثنائية الأحزاب. فالأحزاب الكبيرة التي تمثل في الواقع تحالفات مثل «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» والمحافظين والعمال أصعب في إدارتها وإصلاحها في عصر التغيير. والناخبون الذين لا يجدون أي شيء يروقهم في نظام سياسي راكد يؤيدون نتيجة لذلك الأشخاص من خارج التيار العام، مثل ترامب وجيرمي كوربين زعيم حزب «العمال» البريطاني. - الغطرسة: مازالت بريطانيا والولايات المتحدة مقتنعتين بوضعهما الاستثنائي. وجانب كبير من الفئات السياسية في كلا البلدين- مثل مؤيدي سياسة «أميركا أولاً» وبعض أنصار الخروج البريطاني- مازالوا يعتقدون أن بوسعهم «العيش بمفردهم» وبسعادة دون حلفاء. لكن الناخبين الفرنسيين والألمان لهم خبرة تاريخية مختلفة. فمعظمهم مازال يريد أن يكون جزءاً من تحالفات اقتصادية وسياسية. والأجيال الأكبر سناً منهم بخاصة تخشى التطرف وأكثر حذراً من نظرائهم في المعسكر الأنجلوسكسوني. - الحظ. لو أن عدداً قليلًا من الأصوات قد ذهب في اتجاه مخالف في العامين الماضيين، لتمكن ديفيد كاميرون بسهولة من حكم بريطانيا، ولفازت هيلاري كلينتون من حكم الولايات المتحدة. ولما تحدثنا عن أي من هذا بالمرة. آن آبلباوم صحفية أميركية حاصلة على جائزة «بوليتزر». ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»