تدعي تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية بأن روسيا كانت تهدف من تدخلها في انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية، ليس فقط الإضرار بحظوظ هيلاري كلينتون الانتخابية، وإنما أيضاً تقويض «القناعة العامة بالعملية الديمقراطية الأميركية برمتها»، و«تفنيد نزاهة الانتخابات»، و«التشكيك في النظام الديمقراطي الحر الذي تمثل الولايات المتحدة نموذجاً له». وإذا اتخذنا المشهد خلال الأشهر القليلة الماضية كمؤشر، فإننا سندرك أن الكرملين، قد نجح حقاً في تحقيق الأهداف الأخيرة، إن صح أصلاً سعيه إليها. وهنا تحديداً تكمن المفارقة الساخرة الكبرى وهي أن هؤلاء الذين ظلوا يدعون كذباً، أن ترامب كان رهن التحقيق من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف. بي. آي» لتواطئه مع موسكو، هم في الحقيقة، الذين يتواطؤون معها، حتى ولو عن غير قصد، لتقويض الديمقراطية الأميركية. ومن الأمثلة على ذلك، حملة الاستهداف الشخصية، ذات الطابع المكارثي، التي شهدناها في جلسة استماع لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء الماضي. ولا شك أن الرئيس بوتين كان يضحك في سره، وهو يرى المدعي العام (وزير العدل) جيف سيشين، يُجبر على شجب ما وصفه -محقاً- بـ«الاتهامات المروعة والبغيضة» بأنه قد تواطأ مع الروس، وكذب على مجلس الشيوخ. وشهد سيشين في الجلسة بأن «الاجتماع الثالث» الذي كثر التشدق بأنه قد تم بينه وبين السفير الروسي في فندق «ماي فلاور» في واشنطن، لم يحدث أصلاً، ولم يتجاوز الأمر مجرد وجود عرضي في مكان واحد، إلى درجة أنه لا يتذكره من الأساس. لقد مر زمن كان ينظر فيه إلى الاتهامات التي تساق بلا دليل، عن وجود تنسيق مع الكرملين، على أنها أمر سيئ، أما الآن فمثل تلك الاتهامات باتت شيئاً عادياً في واشنطن، وهو ما أرى أنه يدعم، بشكل مباشر، جهود تقويض الثقة العامة في مؤسساتنا الديمقراطية. لم يقتصر الأمر على ذلك، حيث رأينا على مدى أشهر الديمقراطيين (المعارضة) وهم يؤلفون رواية زائفة، فحواها أن الرئيس ترامب يخضع لتحقيق من قبل «إف بي آي» بهدف التشكيك في صحة رئاسته، والإيحاء بأنه لا يمتلك الشرعية التي تخوله صلاحية تعيين قاض في منصب خالٍ في المحكمة العليا. وهذا الزعم الزائف، كررته وسائل الإعلام الأميركية، عدة مرات، بأسلوب يتسم بالشماتة. ففي اليوم الذي سبق شهادة كومي، أذاعت محطة «سي إن إن» تقريراً خبرياً، جاء فيه: «في شهادته، سيعترض كومي على ما زعمه ترامب، بأنه قد قيل له -لترامب- إنه ليس خاضعاً للتحقيق». ولكن في الجلسة فعل كومي العكس تماماً. فعندما سأله السيناتور جيمس ريش بشكل واضح: «عندما كنت مديراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي، لم يكن رئيس الولايات المتحدة تحت التحقيق. هل ما أقوله صحيح؟» فأجابه كومي: «نعم هذا صحيح»! مع ذلك، لم تكلف «سي إن إن» نفسها عناء تصحيح ادعائها الكاذب. وليس هذا فحسب، بل إن كومي شهد أيضاً، أن ترامب لم يحاول أبداً جعله يوقف التحقيق، في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية، وهو التدخل الذي كان أمراً منفصلاً تماماً، عن التحقيق الذي كان يجريه «إف بي آي» مع مايكل فلين، مستشار الرئيس السابق لشؤون الأمن القومي. وترامب لم يطلب من كومي أن يوقف التحقيق فقط، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. وقد وضح للسيناتور ماركو روبيو هذا الأمر بقوله: «لقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وقال لي إذا ارتكب أي أحد من التابعين لي خطأ ما، فإنه سيكون أمراً جيداً أن تكشف هذا الخطأ». وعندما ضغط «روبيو» على كومي، ووجه إليه سؤالاً محدداً عما إذا كان يستطيع أن يشهد بأن ترامب قد قال له بالفعل «عليك بالتحقيقات الخاصة بروسيا، وأتمنى أن تظهر كل الحقائق، وأنا شخصياً ليس لدي أي شيء يتعلق بروسيا، وسيكون أمراً عظيماً أن يظهر كل شيء للعلن، وأنا أعرف أن الناس المحيطين بي كانوا يفعلون أشياء خطأ». رد كومي بالقول: «إذا ما كنت تسألني عما إذا كانت هذه هي المشاعر التي كان يريد الرئيس التعبير عنها، فإن ردي على سؤالك هو: نعم، يا سيدي». وإذا ما أخذنا هذه الحقائق في الاعتبار، فسنتوصل إلى استنتاج مؤداه أن ترامب مُحق في شعوره بالإحباط. فإذا كنت تعرف أنك لست رهن التحقيق من قبل «إف بي آي»، ولكنك تعرف أن كل شخص، كان يقول إنك رهن التحقيق بالفعل، فإن ما ستريده حتماً في هذه الحالة هو أن تتكشف الحقيقة. مارك تيسين زميل بمعهد أميركان إنتربرايز وكاتب خطب بوش الابن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»