في مثل هذا الوقت (يونيو 1967) تحولت إسرائيل من «مستوطنة يهودية» إلى وطن لليهود. وأول عمل قامت به إسرائيل بعد أن احتلت قواتها مدينة القدس هو أنها غيّرت في النشيد الوطني الإسرائيلي. وأضافت إليه فقرة جديدة. تقول هذه الفقرة: «لقد عدنا إلى الأرض الموعودة، فلتصدح أبواق المعبد فوق المدينة القديمة». غير أن ذلك لم يحصل حتى الآن، وحتى بعد مرور نصف قرن على سقوط المدينة المقدسة بيد الإسرائيليين. ذلك أنه عندما تلقى ليفي أشكول، رئيس الحكومة في ذلك الوقت، نبأ دخول القوات الإسرائيلية إلى القدس قال عبارته المشهورة: «لقد حصلنا على صداق مرتفع (المال الذي يُدفع لأهل العروس لدى عقد الزواج)، ولكن مع عروس لا نحبها»! والعروس التي لا يحبها أشكول هي الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الوقت تعمل إسرائيل على التخلص من «العروس» مع الاحتفاظ بالصداق، وهو القدس. ولكن الذي حدث فعلاً في عام 1967 لم يكن زواجاً. كان عملية اغتصاب تمت، وهي تتواصل حتى اليوم، على مرأى ومسمع من العالم كله. ففي ستة أيام احتلت القوات الإسرائيلية صحراء سيناء حتى قناة السويس. واحتلت كل الضفة الغربية وليس القدس وحدها. واحتلت مرتفعات الجولان السورية حتى وصلت إلى التلال المشرفة على مدينة دمشق. لم تتوسع القوات النازية في شرق أوروبا (بولندا) وفي غربها (بلجيكا وفرنسا) بمثل هذه السرعة وبمثل هذه السهولة. ولذلك ربط الإسرائيليون وحلفاؤهم في الولايات المتحدة تحقيق هذا النصر «العجيب والمدهش» بالإرادة الإلهية! ومنذ ذلك الوقت بدأت عملية ربط الوجود الإسرائيلي والتوسع الإسرائيلي بالوعد الإلهي. حتى أصبحت هذه العملية تشكل العمود الفقري لحركة دينية إنجيلية متطرفة في الولايات المتحدة لا تزال فاعلة ومؤثرة في المجتمع الديني الأميركي حتى اليوم، وهي الحركة التي تعرف باسم «الصهيونية المسيحانية». فهي صهيونية من حيث إنها تؤيد قيام «صهيون» وتعتبر تأييدها واجباً دينياً وليس سياسياً فقط. وهي مسيحانية لأنها تنطلق من خلفية إنجيلية مسيحانية تؤمن بالعودة الثانية للمسيح، وبأن هذه العودة المنتظرة لن تتحقق إلا في صهيون وفي الهيكل اليهودي بالقدس! ومن أجل ذلك عندما دخل الجنرال موشي دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي، القدس المحتلة لأول مرة في عام 1967، كان يرافقه أحد قساوسة هذه الحركة الدينية. فالانتصار الإسرائيلي جسّد شعاراً التقى حوله اليهود والمسيحيون الإنجيليون معاً. يقول هذا الشعار: «جبل الهيكل بأيدينا هارها بايت بأيدينا». يعكس هذا الشعار أول توظيف للدين في العمل السياسي على نطاق واسع في الشرق الأوسط. وهو التوظيف الذي أطلق رد فعل إسلامياً معاكساً داعياً لتحرير المقدسات ليس من خلفية وطنية أو قومية -وقد فشلت هذه الخلفيات في تحقيق ذلك- ولكن من خلفية دينية أولاً وقبل كل شيء آخر. وربما تعود عملية «تسييس الدين» إلى تلك المرحلة، وتحديداً إلى قضية احتلال القدس. غير أن اللافت للانتباه هو أن موجة التطرف الديني التي عصفت بالشرق الأوسط منذ عام 2011 لم تطرح قضية القدس من قريب أو من بعيد. ولم تعكس أي شعور بالعداء لإسرائيل على خلفية احتلالها وتهويدها للقدس. بل إن جماعات تنتمي إلى هذه الموجة وجدت في إسرائيل -عبر مرتفعات الجولان- ملاذاً آمناً لمعالجة المصابين من مقاتليها في المستشفيات الإسرائيلية. قبل مئة عام (1917) صدر عن الحكومة البريطانية وعد بلفور (وزير الخارجية في ذلك الوقت)، الذي ينص على منح فلسطين لليهود لتكون وطناً قومياً لهم. وصدر الوعد على خلفية دينية أيضاً تتماهى مع ما تقول به الحركة الصهيونية المسيحانية اليوم في الولايات المتحدة! وكان هذا الوعد هو أول عملية قيصرية يتعرض لها الشرق الأوسط لاستيلاد دولة جديدة من خلال استقدام جماعات غريبة من دول متعددة وزرعها في قلب المنطقة. ولا يزال جسد الشرق الأوسط يرفض هذا الجسم الغريب. وهو الرفض الذي يعرّضه اليوم إلى المزيد من محاولات التقطيع وإعادة الزرع حتى يفقد مناعته الذاتية ويخضع للأمر الواقع.