تهنئة للأسرى الفلسطينيين
إن المطالب التي أضرب من أجل تحقيقها الأسرى الفلسطينيون بالسجون الإسرائيلية هي مطالب إنسانية بحتة توفرها أية دولة متحضرة للأسرى والمعتقلين لديها. هذا ما حدث خلال استجواب الأسرى الإسرائيليين لدى الجيش المصري في حربي 1967 و1973، إذ أشهد أن مصر كانت توفر لهم كل الحقوق الإنسانية من علاج وغذاء وزنازين وحمامات نظيفة وأوقات وساحات وأدوات للترفيه، ولم تمارس ضدهم أي نوع من الضغوط ليدلوا بمعلومات، وأشهد أن معاملتهم كانت تتم بأرقى الصور الإنسانية. أقول هذا اليوم لأبين للعالم أننا كعرب لا نكيل بمكيالين عندما نطالب لأسرانا في السجون الإسرائيلية بمعاملة إنسانية. إن البسالة التي أظهرها الأسرى الفلسطينيون بالامتناع عن تناول أي طعام والاكتفاء بالماء والملح لمدة واحد وأربعين يوماً هي حقيقة تبين أمرين: الأول أن ما حصلوا عليه أخيراً من حقوق إنسانية في السجون الإسرائيلية لم يأتِ طواعية من جانب الحكومة الإسرائيلية، بل تحت ضغوط المخاوف من موت بعض الأسرى المضربين فيؤدي هذا إلى انتفاضة شعبية فلسطينية، تحت ضغوط سياسية مارسها القادة العرب على الرئيس ترامب وتدخل مبعوثه الخاص للسلام جرينبلات.
أما الأمر الثاني فهو المعدن الإنساني الرفيع لهؤلاء الأسرى الذين فضلوا الموت جوعاً على الحياة المهينة في سجون الاحتلال. إنهم يستحقون التهنئة على هذه البسالة التي نالوا بها معظم الحقوق التي طالبوا بها.
لقد شارف بعضهم على الموت وتعرضوا جميعاً لضغوط من سلطات الاحتلال بقصد إرغامهم على إنهاء الإضراب، لكنهم صمدوا في مواجهة الجوع الذي اختاروه سلاحاً لهم وصبروا على الضرب وصور التنكيل المتعددة من جانب سلطات الاحتلال التي لم ترحم وهنهم وضعف أبدانهم، وراحت تمارس عليهم الضغوط المعنوية والبدنية المرفوضة في القوانين الدولية.
لقد واصل الأسرى الإضراب عن الطعام إلى أن اضطرت السلطات الإسرائيلية بعد مكابرة وعناد إلى التفاوض معهم على مطالبهم وتحقيق الكثير منها. إنهم لا يستحقون منا التهنئة فحسب، بل أن نفخر بهم كنموذج للعزيمة الإنسانية والتصميم على نيل الحقوق من المحتل في أقصى درجات وحشيته. إن هذه الضراوة تكشف عنها المطالب التي اضطرت سلطات الاحتلال للموافقة عليها في مفاوضاتها مع زعيم الإضراب مروان البرغوثي، ومنها توفير حق الأسير الذي يصاب بمرض في تلقي العلاج داخل السجن، وحقه في قضاء حاجته الإنسانية إذا طال به السفر أثناء نقله من سجن إلى آخر في سيارات الاحتلال، وحقه في الاتصال بأهله تليفونياً واستقبال زيارتهم له مرة كل شهر، وتيسير إدخال الملابس إليه، وإنهاء مشكلة حشر الأسرى بأعداد كبيرة في أماكن ضيقة، وتوفير التهوية الصحية بالزنازين ورفع العقوبات التي فرضتها سلطات الاحتلال على الأسرى لإنهاء الإضراب.
وافقت سلطات الاحتلال أيضاً على وقف سياسة عقاب أُسر الأسرى بالتضييق الأمني عليها وبتعويق حركتها على حواجز التفتيش والمعابر، كما وافقت على جمع الأسيرات الفلسطينيات في سجن واحد وتنظيم حقوقهن في استقبال أسرهن وأزواجهن.
والأمر المذهل هو أن سلطات السجون الإسرائيلية توفر طواعية كل هذه الحقوق للسجناء اليهود الذين ارتكبوا جرائم أمنية، وعلى رأسهم «يجآل عامير»، الشاب اليهودي المتطرف الذي قام في عام 1995 باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحق رابين، تحت تأثير الحملة التي شنها اليمين الإسرائيلي ضده بسبب توقيعه اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين.
أرجو أن تكون تجربة النضال السلمي والبسالة التي مارسها الأسرى العرب، وما صحبها من ضغوط سياسية على إسرائيل، نموذجاً يحقق في مفاوضات التسوية النهائية حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال للضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية.