في كتاب «الحدود المرسومة» يبحث الكاتب الفلسطيني رجا شهادة كيف أثّر الاحتلال الإسرائيلي عليه، واصفاً عمليات العبور المتعددة التي قام بها إلى إسرائيل على مدى أربعين عاماً من أجل زيارة الأصدقاء والأقارب، والاستمتاع بالبحر، والترافع أمام المحاكم الإسرائيلية، والتفاوض حول اتفاقات السلام الفاشلة. وخلال فترة الأربعين عاماً هذه نسج «شهادة» صداقة مع هنري أبراموفيتش، وهو يهودي كندي هاجر إلى فلسطين خلال الفترة نفسها تقريباً التي عاد فيها شهادة إلى فلسطين بعد الدراسة في لندن، وخلالها تعرضت صداقتهما للامتحان في مناسبات كثيرة. الكتاب يتتبع مراحل هذه الصداقة وحالات المد والجزر التي مرت بها. فقد التقى شهادة وأبراموفيتش حين كانا شابين مثاليين تراودهما الأحلام الرومانسية وتشغلهما الأسئلة الفكرية. وقتئذ، كان الاحتلال الإسرائيلي فتياً أيضاً، وكان «شهادة»، الشاب المفعم بالأمل والتفاؤل، منبهراً بإسرائيل وبما كان يراه انفتاحاً وثقة في النفس وروح إنصاف وحركية مجتمعية فيها، إذ يقول في الكتاب: «هناك حتى إمكانية لاختيار اسم جديد، ومكان جديد للعيش، ومجتمع جديد. إن الأمر أشبه بولادة ثانية، حيث تخلق نفسك من جديد، وتكون سيد نفسك ومصيرك». أبراموفيتش، وهو يهودي علماني درس في الولايات المتحدة وعاش ردحاً من الزمن في مدغشقر قبل أن يرحل إلى إسرائيل، كان يجسّد هذه الحرية. في تلك الأيام الأولى، يكتب «شهادة»، كانت صداقتهما «عميقة»، بل «أكثر عمقاً من أي علاقة استطعتُ نسجها مع فلسطيني». لكن سرعان ما تبين أنها علاقة يصعب الحفاظ عليها. ذلك أن حظر التجول والإغلاقات ونقاط التفتيش سرعان ما بدأت تحول دون سفر «شهادة» إلى القدس الغربية، حيث يعيش أبراموفيتش. وبحلول أواخر الثمانينيات، ومع تأجج الانتفاضة الأولى، لم يعد آمناً سفر أبراموفيتش، الذي أعفا لحية طويلة وبات يشبه يهودياً متديناً، إلى رام الله. وفضلاً عن ذلك، فإن «شهادة» الحساس جداً، أخذ يشتبه في أن أبراموفيتش يعتبره صديقَه العربي «الرمز»، حيث خاطبه أبراموفيتش ذات يوم بـ«صديقي الفلسطيني». ثم إن «شهادة»، الذي ساهم في تأسيس منظمة «الحق» لحقوق الإنسان في 1979، لم يعد يستطيع تحاشي الجدال السياسي. والواقع أن صديقه يرفض أعمال الاحتلال الوحشية المتزايدة، لكنه لسنوات لم يقل شيئاً ضدها ولم يندد بها. وذات يوم، لدى عودته إلى الضفة الغربية بعد زيارة للأردن، التقى شهادة مصادفة بأحد أصدقاء أبراموفيتش، رجل يدعى إيلداد، بمعبر جسر اللنبي الحدودي. وكانا قد التقيا من قبل بمنزل صديقة أبراموفيتش، لكن هذه المرة كان إيلداد يرتدي بزة جندي عسكري لأنه كان يؤدي الخدمة كجندي احتياط. «شهادة» لن ينسى أبداً ما عاشه من إذلال على يد الجندي الإسرائيلي ذاك اليوم: «لقد تحدث عن مأدبة العشاء، وكيف أنه كان سعيداً بالتعرف علي هناك، ثم أمرني بخلع حزامي وحذائي، وإنزال بنطلوني، وإبعاد ما بين ساقي، ثم الاستدارة». بعد وقت قصير على هذا الحادث، حاول «شهادة» وضع حد للعلاقة التي تجمعه بأبراموفيتش: فـ«مادام أنك اتخذت قرارك بالقدوم إلى إسرائيل والاستقرار فيها»، يقول في رسالته إلى أبراموفيتش، «فإنك بالتزامك الصمت موافق على شرها وتشارك فيه. وأنا لا يمكنني أبداً أن أحترمك بسبب هذا ولا أن أسامحك». «شهادة» وجد نفسه مستاءً من أبراموفيتش حيث كان يراه متواطئاً. وكان يشعر بالإهانة حتى من كلماته أحياناً. فعندما كتب إليه صديقه ذات مرة رسالةً من الخارج يقول له فيها إنهما يجب أن يلتقيا من جديد عندما يعود إلى «الوطن»، شعر «شهادة» بالاستفزاز جراء هذه الكلمة: «إسرائيل كوطن، لقد دفعني هذا للتفكير. إن هنري لم يولد في فلسطين. وقد جاء إلى هنا بملء إرادته. ألم يكن يجدر به أن يعلن معارضته لما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين! لقد أكد أنه لن يلتحق بالجيش الإسرائيلي أبداً، لكن هل يكفي هذا؟ ألم يؤكد، بمجرد انتقاله إلى هنا، أن الصهيونية نجحت وأن المستوطنات مبررة؟». لكن «شهادة» سرعان ما كان يصفح عن صديقه، المرة تلو الأخرى. فقد كان الاتصال بينهما ينقطع، لسنوات أحياناً، إلى أن تعيد الظروف جمعهما. أحياناً كان استياء «شهادة» يباعد بينهما، وأحياناً كان يسمح لهما بالتصالح. وبعد توقيع اتفاقات أوسلو في 1993، شاهد «شهادة» شعبه يوافق على حكم ذاتي شكلي بدلاً من سيادة فعلية فشعر باليأس. لكن السياسة لم تعد تستحق خسارة صداقة غالية، إذ سرعان ما عاوده الحنين إلى صديقه وأخذ يبحث عن أبراموفيتش مرة أخرى. ومن جانبه، يتنصل أبراموفيتش باستمرار من المسؤولية عن كل ما يفرق بينهما، متبنياً الموقف المريح له والمؤذي والمؤلم لـ«شهادة»: أن صداقتهما يمكن أن تستمر «على طائرة فوق السياسة وخارجها». محمد وقيف الكتاب: الحدود المرسومة.. عبور الحدود في فلسطين المحتلة المؤلف: رجا شهادة الناشر: بروفايل بوكس تاريخ النشر: 2017