لقد تم انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية يوم الأحد الماضي، ويمكن القول إن التدابير التي سيتخذها في ما يتعلق بملفات السياسة الخارجية ما زالت ضبابية الملامح بعض الشيء. ولا شك في أن زخم الانتصار الذي حققه ماكرون، زعيم حركة «إلى الأمام»، على منافسته مارين لوبين، كشف بكل وضوح أنها لم تكن تمتلك خزان أصوات كبيراً بالقدر الذي أثار القلق. ولكنّ أولئك الذين أثار توجسهم خطر فوز محتمل لزعيمة حزب «الجبهة الوطنية»، وفي أذهانهم حالة التصويت الاحتجاجي في الولايات المتحدة «فوز ترامب» والمملكة المتحدة «البريكسيت»، ينسون أن النظام الانتخابي الفرنسي يقوم على شوطين انتخابيين، وهو ما يجعله مختلفاً عن النظام الانتخابي في كل من أميركا وبريطانيا. وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية، فلا شك في أن حجم وزخم نسبة الفوز سيكتسي أهمية خاصة: فلو كانت نسبة مارين لوبين أعلى مما حصلت عليه لكان ذلك مخصوماً من مصداقية فرنسا في الخارج، بل إن وصولها أصلاً إلى الشوط الثاني مثل صدمة في حد ذاته، على رغم أنه كان متوقعاً أصلاً. والمفارقة أن مارين لوبين يحلو لها أحياناً الزعم بأنها ذات توجه ديغولي، وهي تفعل ذلك بطريقة مبالغ فيها وزائفة. فليس مجرد إبداء الرغبة في إقامة علاقات مع روسيا كافياً وحده لوصف سياسة ما بأنها ديغولية: ومناط الحكم على تلك السياسة يتوقف على ما إن كانت علاقة سليمة، ومتوازنة، أم علاقة اعتماد وتبعية (بما في ذلك الاعتماد المالي على موسكو، والإشارة هنا إلى قرض مصرفي لمارين لوبين). وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة، تعلن لوبين، للمفارقة، أنها تريد الاحتفاظ بهامش استقلال موقف، متمنية أيضاً في الوقت نفسه السير في ركب الرئيس ترامب. فهل يمكن أن نتخيل الجنرال ديغول منتظراً في كافتيريا على أمل الحصول على موعد؟ ولذلك فمن الخطأ البيّن أن تزعم مارين لوبين تبني دبلوماسية ديغولية، سواء في العلاقة مع الولايات المتحدة، أم مع روسيا، هذا طبعاً دون أن نتحدث عن العلاقة مع الدول البازغة، ومع الإسلام: فديغول، هو من جعل من المصالحة مع الدول العربية هدفاً ذا أولوية، وذلك بوضع نهاية لحرب الجزائر. وأما إيمانويل ماكرون فقد قدم نفسه، خلال الحملة، باعتباره ضمن الخط الديغولي- الميتراني. هذا مع أنه لم يكن أيضاً صريحاً بشكل كافٍ بشأن موْضعته ضمن هذه التصنيفات. ولكن مرشح «إلى الأمام» أخذ مسافة أمان واضحة من موقف مانويل فالس في ما يتعلق بمسألة نزع الجنسية، وهو ما عاد عليه بدعم واسع وقوي. وفوق هذا حرص ماكرون أيضاً بشكل خاص على عدم الخوض مع الخائضين في الحديث عن موضوعات من قبيل «الحرب العالمية الثالثة»!، و«الفاشية الإسلاموية»، وصدمة الحضارات، وهي ديباجات مثيرة للانقسام والخصام لم تتردد مارين لوبين ومرشحون آخرون في استخدامها، لأغراض انتخابية انتهازية. وفي ما يتعلق بسياسة ماكرون الخارجية يلاحظ أولاً أن مجموعة مستشاريه شديدة التنوع: ليست من اليسار، ولا من اليمين، وفيها محافظون جدد وديغوليون- ميترانيون، على حد سواء. وستكون تعييناته في المناصب الدبلوماسية، وتحديداً في وزارتي الخارجية والدفاع، مؤشراً إرشادياً قوياً على اتجاه سياسته الخارجية. وفي ما يتعلق ب«الناتو» تبدو مواقف «ماكرون» نسبياً تقليدية: فهو يريد بناء قوة دفاع أوروبية، ولكنه أيضاً لا يضع اندماج فرنسا في الحلف الأطلسي موضع سؤال أو تشكيك. وهذا كذلك مؤشر آخر مهم ودال على نوعية السياسات الخارجية التي سيتبعها الرئيس المنتخب. وفي مواجهة روسيا أخذ إيمانويل ماكرون مسافة من الرئيس فلاديمير بوتين، وقد كان في هذا مختلفاً أيضاً عن منافسيه -مارين لوبين، وجان لوك ميلانشون، وفرانسوا فيون- الذين تعهدوا جميعاً بإعادة التوازن إلى العلاقات مع موسكو. ولكن عندما يدخل «ماكرون» قصر الإليزيه سيكون عليه أن يضع في الحسبان أن روسيا شريك مهم، وهو ما يعني عدم الابتعاد عنها بقوة شديدة. وفي الماضي، سبق لنيكولا ساركوزي أن أعلن أنه لن يشد أبداً على يد فلاديمير بوتين، ولكن انتهى به المطاف إلى تبني سياسة شديدة التعاون مع موسكو، وذلك رغبة في بيع حاملة المروحيات «ميسترال» لها -وهو ما لم يتكمل في النهاية بسبب المسألة الأوكرانية. ويعرف عن ماكرون، في هذا المقام، دعوته إلى رفع العقوبات عن روسيا، ولكن بشرط احترام اتفاق «مينسك». ويمكننا أن نتصور بسهولة أنه منذ لحظة استلامه مقاليد الرئاسة سينسى تماماً دعم موسكو القوي لمارين لوبين، وذلك لكي يتمكن من اتباع السياسة الملائمة لمصالح فرنسا تجاه روسيا. وإزاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بدا إيمانويل ماكرون حريصاً، بعض الشيء، على عدم تبني أي مواقف من شأنها أن تؤلب ضده عداوة المؤسسات اليهودية الفرنسية. ولذلك ظل حذراً جداً، بل إنه دان حملة المقاطعة «لإسرائيل»، معلناً في الوقت نفسه أنه لن يعترف من جانب واحد بالدولة الفلسطينية. وهو يسير في الحقيقة على خطى فرانسوا أولاند، الذي كان قد تعهد خلال حملته الانتخابية بالاعتراف بفلسطين، قبل أن يتخلى عن ذلك، لأسباب سياسية داخلية في الأساس. وسنرى قريباً إن كان ماكرون سيتبع هذا الخط فعلاً، أم أنه سيعود إلى التقليد السياسي الفرنسي، المتمثل في الوقوف في الصفوف الأولى للدول الغربية دفاعاً عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكذلك تقدم فرنسا نفسها باعتبارها الدولة الغربية الأكثر قرباً من القضية الفلسطينية. ولكي نلخّص أخيراً، فقد حرص إيمانويل ماكرون خلال حملته على اجتذاب أكبر قدر ممكن من الناخبين، مع عدم جرح شعور أحد؛ ولذلك اتسم خطابه أحياناً بنوع من الضبابية تجاه قضايا مثيرة للخلاف جداً في السياسة الخارجية. والآن وقد انزاح عن صدره عبء الحذر الشديد الذي رافقه طيلة الحملة، وقد صار رئيساً، سيكون عليه أن يكشف بالتفصيل، وبوضوح، أية سياسة خارجية سيتباعها. وقد أكد أكثر من مرة رغبته في اتباع سياسة ذات خط ديغولي- ميتراني، وهو ما يعني أن عليه ألا يتردد في بيان تفاصيل خياراته والخطوط العريضة لسياسته الخارجية، وأن يسير عكس رياح التيارات السائدة في الخارج وجماعات الضغط في الداخل. وذلك بهدف اجتراح سياسة تضع في اعتبارها المصالح الوطنية وحدها، قبل كل شيء آخر.