قام الطيران التابع للنظام السوري بضرب مدينة خان شيخون التابعة لريف إدلب القريبة من معرّة النعمان، والتي يبلغ عدد سكانها قرابة 48 ألف نسمة، وهي من آخر المدن السورية المحررة القريبة من مدينة حلب، أو على الطريق الواصل بينها وبين دمشق. حاول نظام الأسد استخدام السلاح الكيماوي ليقضي على آخر معاقل المعارضة السورية، أو لعلّها، كما تقول بعض الصحف الغربية، محاولة من جيش نظام مجرم مُنهك كي يتخلص من إنهاكه المتواصل بضربة قاضية واحدة. وكما هي عادة المجرمين، أخذته العزّة بالإثم، وشعر بأنّ الإدارة الأميركية الجديدة لا تلقي بالاً للحرب الأهلية في سوريا، وأنّ عدوّها الأول هو «داعش» والإرهاب، أما الأسد فيمكن التعامل معه في المستقبل، فهو ليس عدواً لها في الحاضر. وشعر النظام بأنّ الآخرين لا يلقون بالاً لأفعاله وجرائمه فبالغ فيها، وعاد إلى غيّه القديم الذي كان يفعله منذ بداية الثورة السورية، وهو استخدام الغازات السامة. وفي هذه المرة، كان غاز السارين أكثر تأثيراً على المدنيين المستهدفين، وأدى إلى احتضار أكثر من ثلاثين طفلاً جميلاً من بين مئة ضحية قضوا نحبهم نتيجةً لهذا القصف الكيماوي. وقام المسعفون السوريون بمحاولة إنقاذ المدنيين المصابين بخراطيم المياه، كما حاولوا نقلهم إلى المشافي المحلية، وإلى المستشفيات التركية. ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قاموا أيضاً بتوثيق هذا الهجوم بالصوت والصورة، وبثّوا صور الجريمة النكراء إلى جميع أنحاء العالم. وهو ما حدا بالرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب أن يشعر بأنّ نظام الأسد لم يقم فقط بعمل إجرامي ضد البشرية، وإنما كان أيضاً يتحدى الإدارة الأميركية الجديدة في أول شهور تسلمها للسلطة. ولاشكّ في أنّ ضرب قاعدة الشعيرات السورية التي انطلقت منها الطائرات التي استخدمت الغاز السام، كان عملاً إنسانياً صفّق له العالم أجمع، عدا أولئك المتواطئين مع السفاح. ولكن يبدو لي كذلك أنّ الرئيس الأميركي كان يريد أن يُبدي أنّ أميركا قوية وجادّة ولها مصالح في الشرق الأوسط لا يمكن لروسيا ولا لعميلتيها سوريا وإيران أن تتجاهلها. ومن يدرس السياسة الخارجية الأميركية لأي إدارة جديدة يرى أنّ هذه الإدارات تحوّل مثل هذه التحديات الاستراتيجية إلى فرص تنتهزها لتؤكد قوة الولايات المتحدة، وترسل رسائل تحذير متعددة لأعدائها ومنافسيها. وكان أول هؤلاء هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يستطع أن يحمي الديكتاتور القابع في دمشق. أما إيران فقد سارعت إلى إرسال عوائل المقاتلين الإيرانيين في سوريا إلى جنوب لبنان، على اعتبار أنّ وجودهم في الجنوب اللبناني، وإن مؤقّتاً، سيكون أكثر أماناً لهم من السكن بالقرب من القواعد العسكرية السورية السبع والعشرين التي تنطلق منها مقاتلات النظام لتقتل أبناء الشعب السوري وتهجّره من مدنه وقراه. وبدورهم هاجم رجال الدين الإيرانيون في خطبة الجمعة ما أسموه بالعدوان الأميركي على سوريا، وحاول رئيسهم روحاني، الذي يرشّح نفسه لانتخابات قادمة في شهر مايو القادم، أن يخوّف الغرب من البعبع الإرهابي القابع في سوريا والعراق، والذي يعتبره روحاني عدوّاً مشتركاً لكلٍ من إيران والولايات المتحدة. أما «حزب الله» اللبناني، حليف دمشق، الذي يقاتل أبناء الشعب السوري بعدما حموه وفتحوا له بيوتهم أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، فقد وصف الضربة الأميركية بـ«الحمقاء». وكأنّ العقل هو في المشاركة في مذابح السوريين بالعتاد التقليدي والكيماوي وهدم بيوت أبناء حلب وحمص ومعرّة النعمان. أما الحكومة العراقية فحاولت أن تمسك العصا من الوسط، فهي وإن أدانت الهجوم الكيماوي على خان شيخون، فقد أعربت أيضاً عن قلقها إزاء التصعيد العسكري الأميركي في سوريا. أما حكومة إقليم كردستان العراق فقد قارنت بين الهجوم على خان شيخون من قِبل الأسد، وبين ما قام به صدام حسين في مجزرة «حلبجة». أما «الحشد الشعبي» في العراق، فقد انقسم بين مؤيّدٍ لموقف الحكومة العراقية من الضربة، أو متبنٍّ لموقف الحكومة الإيرانية. والصوت الوحيد العاقل في «الحشد الشعبي» كان صوت مقتدى الصدر، فهو وإن أدان الهجوم الأميركي، فقد طالب بشّار بالتنحّي وتقديم استقالته ليس فقط حقناً لدماء الشعب السوري المقتول من قِبل قوات الأسد منذ ست سنوات ونيّف، ولكن خوفاً من تطور الأزمة السورية واحتلال الولايات المتحدة للأراضي السورية، كما فعلت من قبل في العراق. الدول الإقليمية، كما السعودية والإمارات وتركيا وبقية دول مجلس التعاون، رحّبت بالعملية الأميركية ضد قوات الأسد، لردعه عن تكرار جرائمه. أما إيران و«حزب الله» وحلفاؤهما في المنطقة، فقد شعروا بأنهم أمام رئيس جديد يتعامل معهم بمنطق القوة، بعكس الرئيس السابق أوباما، المسالم معهم. وأنّ الجمهوريين في الولايات المتحدة هم أقوى شكيمة من الديموقراطيين. وأنّ ترامب قد أرسل رسائل قوية لكلٍ من الأسد وإيران وروسيا بأنّ للولايات المتحدة مصالح في المنطقة، وأنها لن تسمح لديكتاتور مثل بشار الأسد بأن ينتهك القانون الدولي، وينفذ بجلده من العقوبة على هذه الانتهاكات. الرسالة كانت أيضاً واضحة في طهران وموسكو، بأنّ ترامب، وإن بدا غامضاً أو غير واضح في ملامح سياسته الخارجية، فإن في يده عصا غليظة لن يتردد في استعمالها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك. -------------------- * أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود