تساءلت في نفسي، هل أعنون هذه المقالة بهذا العنوان، أم بعنوان آخر هو الأحقاب العربية؟ وعُدت إلى لسان العرب لعلّه يشفي بعض غليلي، ويوضّح في ذهني هذا الالتباس بين العصر والحقبة. فوجدت أن اللسان يعرّف العصر بالدهر، أو بساعة من نهار، أما الحقبة فهي فترة زمنية محدودة لا تتعدى الثمانين عاماً. وقلت كلا، فنحن العرب لا نعيش حقبة محدودة من الزمن، بل نحن موجودون منذ بدأ التاريخ المكتوب على أيدي بعض أجدادنا من سومر نحو 3200 سنة قبل الميلاد. وكنا، ولازلنا، تطيب لنا أزمان وتتداعى علينا أزمانٌ أخرى، فنحن كشجر «العرفج» الصحراوي، لا يموت أبداً، بل ينتظر قطرات من المطر كل ربيع لينتفض من جديد وينعش الأجواء بزهوره الصفراء الجميلة. هكذا نحن العرب، نمر في عصور من النمو والازدهار ومن ثمَّ التراجع، لنعود مجدداً ونزهر في عصور أخرى. تراءت لي هذا وأنا استمع لجزء من حفل افتتاح القمة العربية السنوية التي عُقدت هذا الأسبوع في البحر الميّت بالأردن. وتساءلت: مالذي يدور في خَلَد الزعماء العرب وهم يرون دولهم وشعوبهم تعاني من أزمات داخلية وخارجية متعددة؟ الدول العربية التي كانت مواردها الاقتصادية والزراعية كافية لسدّ احتياجات شعوبها قبل نصف قرن، نجدها قد تعاظم عدد سكانها، حتى كادت لا تستطيع تأمين سدّ رمق شعوبها. فالانفجار السكاني قد أكل الأخضر واليابس، فلا المياه كافية لسقيا السكان، ولا الطعام كافٍ لسدّ رمقهم. ولا تملك الدول العربية الجرأة لتقديم سياسات سكانية وخطط عملية تحقق التوازن بين الموارد والمطالب المتأتية من الطفرة الهائلة في عدد المواليد الجدد. من ناحية ثانية، فإن هذه الدول التي نعمت لفترة طويلة بالمواد النفطية وكوّنت «دولة الرفاه»، بناءً على عائداته الضخمة، حتى في الدول غير النفطية، نجدها اليوم تتحول شيئاً فشيئاً بعيداً عن النفط، بعد أن تراجعت أسعاره إلى النصف، وبعد أن بدأ العالم يحاول تطوير بدائل طاقة جديدة تحلّ مكانه. ومن ناحية ثالثة، فإن الدولة الوطنية العربية التي أخذت على عاتقها خلال فترة طويلة من حياتها واعتمدت نداء تحرير فلسطين، وفشلت في تحقيقه عبر الحرب أو عبر آليات المفاوضات، تجد نفسها اليوم وهي تعاني من خطر الانقسامات والحروب الداخلية. وقد أصبحت الجماعات المسلحة التي تبني قوتها على أساس أيديولوجي أو طائفي، تحاول هدم بناء الدولة القومية لتقيم مكانه دولاً طائفية أو إقليمية صغيرة. وبينما كان آباؤنا ينادون بإنشاء دولة الوحدة العربية، أصبح أحفادنا يخشون من العيش في أُطر صغيرة محدودة يحكمها أمراء الحرب تحت أقنعة متعددة، طائفية أو دينية أو إقليمية ضيّقة. وفي هذا الإطار، كما يقول الأمين العام للأمم المتحدة (غوتيريز)، أصبح نصف عدد اللاجئين في العالم هم من العرب. وبعضهم هرب من قصف الطائرات وهو لم يبلغ الخامسة من العمر ولا يُعرف له أب أو أم، بل أصبح أباه المخيم وأمه هيئات الإغاثة الدولية. هل هذا يعني أن الصورة قاتمة، وأن المستقبل سيكون ليس إلا صورة سوداوية من الماضي. وإجابتي بأن ما أسميه العصور التاريخية، هو عصور ازدهار تتلوها مراحل انحطاط أو انتقال، ليعود بعدها بزوغ عصور ازدهار جديدة. فالتاريخ ليس أسود كما يحاول البعض تصويره، بل هو مزيج من السواد والضياء، وبينهما فجوات تاريخية متفاوتة لا تتعدى المائة عام في تاريخ البشر، تملؤها ألوان ضبابية تحجب نور الشمس. وهي على كل حال فترات انتقالية تختمر فيها الأفكار والعقول، وحتى الأبدان، لتعود لتنهض بعدها من جديد. وفي ظنّي أنّنا بفعل ما تقدّم ذكره من عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية، نمرّ بمثل هذه الفترة التي لن تطول بعون الله، لأن الإنسان، سواءً أكان عربياً أم غير ذلك، قادر على تغيير بيئته وشروط معيشته فيها. والتحدّي الحقيقي هو الاتحاد والتضامن، فلن يكون لنا وجود حقيقي إلا في اتحادنا وتضامننا، ليس لبناء دولة قوية، بل لبناء إنسان قوي متعلّم قادر على التعايش مع العالم والانفتاح عليه والتأقلم مع تغيّراته وملابساته المتعددة.