تشكل رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة عنواناً لمرحلة جديدة في العلاقات الأميركية- الصينية. تاريخياً، عانى الصينيون طويلاً من مشاريع التوسع الاحتلالي البريطاني، ومن ترويج بريطانيا للمخدرات من أجل إخضاع الصين والهيمنة عليها. كما عانوا طويلاً أيضاً من المشاريع الاستعمارية لدول أوروبية أخرى كالبرتغال وإسبانيا، وفي الوقت ذاته، وجد الصينيون في الولايات المتحدة، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر صديقاً يختلف عن الأوروبيين، حتى أن الأمير «غونغ» الذي كان من القادة الصينيين المرموقين في ذلك القرن، وصف الأميركيين بأنهم «مخلصون وطيبو القلب». وفي عام 1943 زار أميركا عالِم الاجتماع الصيني «فاي شياتونغ» ووصفها بأنها «جنة». وقال إن على الصين أن تتبنى الروح الأميركية. أما سرّ تلك الروح كما حدده العالِم الصيني في ذلك الوقت فقد تمثل في قوله إن الولايات المتحدة بلاد من دون أشباح (الماضي)، وإن الناس انصرفوا إلى صناعة المستقبل بدلاً من التصارع على الماضي. غير أن للدول حسابات أخرى أيضاً. كانت حسابات الدولة الأميركية تقوم على أساس استثمار أسواق الصين وقدراتها على التسويق. ومنذ القرن الثامن عشر بدأت تجارة الشاي. حتى إن سفينة الشحن التي أغرقت في خليج بوسطن أثناء الثورة الأميركية ضد البريطانيين وصبغت المياه باللون الأحمر، كانت محملة بالشاي المستورد من منطقة «شيامين» الصينية. وقد ساهمت عائدات التجارة الأميركية مع الصين في تمويل الثورة الصناعية الأميركية. كما أن العمال الذين استقدموا من الصين ساهموا في بناء الغرب الأميركي، ولاسيما في مد خطوط السكك الحديدية. وفي المقابل أغرق الأميركيون الصين بالبعثات التبشيرية الإنجيلية وبرجال الأعمال الذين تدفقوا عليها عبر المحيط الباسيفيكي. كان الانفتاح الصيني على الولايات المتحدة مجرد رد فعل على سوء معاملة الأوروبيين للصين. ولكن في الوقت ذاته كان الصينيون يتطلعون أيضاً إلى هدف آخر ورد على لسان الأمير «غونغ» نفسه حيث قال: «إن المشكلة هي كيف يمكننا أن نكون أسياد اللعبة بحيث نتمكن من استثمار الأميركيين والإفادة منهم». وهذه العلاقة المزدوجة ليست صورة من التاريخ فقط، ولكنها مكوّن أساس للعلاقات المشتركة بين الصين والولايات المتحدة. فقد أقفل «ماو» بلاده تماماً في وجه الأميركيين. وأعاد فتح تلك الأبواب من جديد الرئيس ريتشارد نيكسون في زيارة تاريخية قام بها إلى بكين. ويومها رحبت الصين بعودة الشركات الأميركية بعد انقطاع طويل.. ولكن ذلك الترحيب كان مشروطاً بنقل التكنولوجيا الصناعية الأميركية إلى الصينيين أنفسهم، وتدريبهم على استخدامها. وكان نيكسون يردد أن تمكين 800 مليون إنسان (عدد سكان الصين في ذلك الوقت) من المعرفة في ظل نظام انضباطي سيجعلهم أسياداً في العالم.. وهكذا لم يصبحوا الآن مجرد أسياد فقط، ولكنهم أصبحوا منافسين للأميركيين أنفسهم. ومن أجل ذلك قال نيكسون قبل وفاته في عام 1994: «يبدو أننا قد خلقنا فرانكشتاين»! وفي عام 1881 توقعت صحيفة «نيويورك تايمز» أن تعجز الصين عن استيراد المعارف الصناعية والتقنيات المتطورة من الولايات المتحدة من دون أن تستورد معها «جرثومة» الثورة أو التمرد السياسي. ولكن يبدو أن هذا التوقع لم يكن صحيحاً. فالصين اليوم تغرق الأسواق الأميركية بمنتجاتها الثقيلة والخفيفة، التي تستخدم التقنيات الأميركية من دون أن تسمح لتلك «الجرثومة» بإصابة نظامها السياسي بالعدوى. ولعل هذا ما يقلق الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب الذي أسقط، أو على الأقل، هدد بإسقاط مبدأ «الصين الواحدة» من قاموس العلاقات الأميركية الصينية، في محاولة منه لابتزاز الصين اقتصادياً ومالياً. فعندما ضربت الأزمة المالية الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق جورج بوش، جرى حوار بين وزير الخزانة الأميركية في ذلك الوقت «هانك بولسون» وأحد كبار المسؤوليين الماليين الصينيين يدعى «وانغ كيشان». وفي ذلك الحوار قال المسؤول الصيني لنظيره الأميركي: «لقد كنت أستاذاً لي.. ولكننا لسنا مستعدين للتعلم منكم بعد الآن»! ويعرف ترامب خلفية هذا الحوار.. ويعرف الروح التي أملته. ولذلك يحاول أن يقلب الطاولة من جديد مستخدماً ليس قوة الدولار (قوة الاقتصاد الأميركي)، ولكن قوة قبضته السياسية (قوة الحضور العسكري الأميركي في شرق آسيا)، فكان انفتاحه على تايوان.. وكان إعلانه المفاجئ بأنه ليس مضطراً للالتزام بسياسة «الصين الواحدة» التي التزم بها الرؤساء الأميركيون السابقون منذ السبعينيات من القرن الماضي. عندما انفتح الرئيس الأميركي نيكسون على الصين في عام 1971 كان يتطلع إلى الالتفاف على الاتحاد السوفييتي مستغلاً سوء العلاقات الصينية- السوفييتية في ذلك الوقت. اما الآن فالسؤال: هل يستطيع الرئيس الأميركي الجديد ترامب، الذي يحتفط بعلاقة ودية مع الاتحاد الروسي، أن يلتف على الصين؟.. إن من سوء حظ ترامب -أو من سوء تقديره- أن العلاقات الصينية- الروسية تمر في الوقت الحاضر في أحسن مراحلها، وذلك نظراً لحاجة الصين إلى النفط الروسي.. ولحاجة روسيا إلى تصدير نفطها.. فماذا هو فاعل؟!