تعود العلاقات العربية الصينية لجذور زمنية قديمة، حينما توغل البحارة الصينيون في بحر الصين الجنوبي، والتقوا بالبحارة العرب في المحيط الهندي. وكان مثلث التجارة العربي مزدهراً بين جنوب الجزيرة العربية والهند وشرق أفريقيا. وبلغة اليوم، يمكن القول تاريخياً بوجود منطقتي تجارة حرّة قديمتين، إحداهما مرتكزة في البحار الغربية للمحيط الهادي، تجوبها السفن الصينية وغيرها من سفن بلدان شرق آسيا، والأخرى مرتكزة في بحر العرب وغرب المحيط الهندي، وتجوبها السفن العربية والهندية والأفريقية. وكان لابد لهاتين المنطقتين التجاريتين المزدهرتين أن تتلاقيا في الهند، حيث كانت الموانئ الهندية نقطة التماس بين هذين العالمين، العربي والصيني. ولم يكن مُستغرباً إذن أن يحمل التجار العرب من حضرموت ثقافتهم إلى شرق آسيا وجنوبها، وحينما سطعت شمس الإسلام، كان هؤلاء التجار الحضارمة من أوائل من حملوا لواء الدعوة المحمدية إلى شرق آسيا وجنوبها. وبفضل تعاملهم الراقي، استطاع هؤلاء التجار نشر الإسلام في ربوع إندونيسيا وماليزيا وغيرهما من بلدان جنوب شرق آسيا. ويقول أحد المؤرخين الأستراليين، إنّه لو توغل هؤلاء التجار في سفنهم وتجارتهم جنوباً لوصلوا إلى شطآن القارة الأسترالية، ونشروا الإسلام بين سكانها. ويمكن القول إنّ أول تاريخ مكتوب لتواصل الحضارتين العربية والصينية كان في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، الذي تقول بعض الروايات إنه أرسل أحد الصحابة سفيراً إلى بلاط الإمبراطور الصيني (من سلالة تانج)، وأحسَن وفادته، وعرض عليه الإسلام، وربما أسلم بعض من قومه. غير أنّ الإسلام لم يتجذر في الصين إلا في مناطق قريبة من التواصل البشري مع العرب والمسلمين. وكان مسجد «هواي شنج»، في مدينة «جوانزو» الساحلية، أول مسجد إسلامي يُبنى في الصين، وهو مشهور بمنارته المرتفعة التي تطلّ على البحر، وترتفع بمقدار 36 متراً. كما انتشر الإسلام في غرب الصين أيضاً. ويوجد اليوم نحو ثمانية عشر مليون مسلم في أرجاء الصين المختلفة. وبدورهم قام البحارة الصينيون بزيارة جزيرة العرب، ولعلّ أبرزهم البحار المسلم الأدميرال «زنج هي» الذي كان قائد الأسطول البحري في بدايات حكم سلالة «منج»، بين عامي 1405م و1433م. وقد زار عدة موانئ في بحر العرب كما زار جدة، وربما ذهب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة العمرة، بحكم أنه مسلم. وينسج الكثير من الأساطير عن هذا القائد البحري الفذّ، الذي يذكر المؤرخ البريطاني «جافن منزيس» أنه ربما اكتشف الشواطئ الشرقية للقارة الأميركية قبل أن يكتشفها كريستوفر كولومبوس بسبعين عاماً. واليوم تعود العلاقات الثقافية بين العالم العربي والصين لتنشط من جديد، فهناك نحو اثنين وأربعين برنامجاً جامعياً لتعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية. وقد افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يوم أمس الجمعة أول مكتبة ثقافية عربية في الصين، هي مكتبة الملك عبدالعزيز في جامعة بكين، وتقع في مبنى جديد وسط الجامعة يتكون من ستة طوابق فوق الأرض وطابقين تحتها، وبمساحة إجمالية تصل إلى ثلاثة عشر ألف متر مربع، وتحوي مركزاً ثقافياً وقاعة اجتماعات وقاعة للمعارض الفنية. وتأمل المكتبة التي يشرف عليها كل من جامعة بكين ومكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض، إلى أن تكون مركزاً ثقافياً متكاملاً يساعد الطلاب الذين يدرسون اللغة العربية في الجامعة في الحصول على الكتب العربية والمخطوطات العربية والصينية التي تدرس تاريخ التلاقح الحضاري بين العرب والصينيين. كما تأمل المكتبة أيضاً في عقد المحاضرات الدورية واللقاءات الأكاديمية بين المتخصصين العرب والصينيين. وتعد هذه الجامعة أفضل جامعة متخصصة في الصين أنشئت قبل 120 عاماً ويدرس فيها اليوم 37 ألف طالب. ويأتي الاهتمام العربي بالصين وجامعاتها نظراً للدور الذي تلعبه هذه الدولة بعدد سكانها وقوتها الاقتصادية التي باتت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وللدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في شؤون الشرق الأوسط حيث تركز اليوم على توسيع نفوذها الاقتصادي بإعادة إحياء طريق الحرير القاري الذي يصل بين ثلاث قارات، وكذا طرقها البحرية التي تتواصل من شرق آسيا عبر جنوب القارة وغربها ووصولاً إلى الشواطئ الأفريقية والأوروبية. وعلى رغم أن الصين لا ترغب في بسط نفوذ عسكري في منطقة الشرق الأوسط إلا أنها تستخدم وبنجاح عناصر القوة الرخوة في تأمين مسارات تجارتها الدولية. ----------------- د. صالح عبد الرحمن المانع* * أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود