يصعبُ فصل تحديد مسؤوليات الدول القوية في محيطها الإقليمي المضطرب في الشرق الأوسط عن التحولات الجيوسياسية وانعكاساتها الإقليمية. وثمة محطات مفصلية غيّرتْ البُنى والقواعد التي تأسس عليها الشرق الأوسط منذ عقود. فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين كانت‏? ?هناك ?أحداث ?الحادي ?عشر ?من ?سبتمبر ?2001 ?وغزو ?العراق ?2003 ?وفي ?2011 ?اندلعت ?أحداث «?الربيع ?العربي»?، ?ثم ?جاء ?توقيع ?الاتفاق ?النووي ?الإيراني ?في ?2015، ?واحتدم ?جرّاء ?ذلك ?كله ?الصراع ?الإقليمي، ?مصحوباً ?بتفكك ?دول ?وتغيّر ?خرائط، ?وتراجعٍ ?قياسي ?في ?أسعار ?النفط، ?وتصاعد ?خطر ?الإرهاب ?وملف ?اللاجئين، ?وأصبح ?التحدي ?أمام ?المجتمع ?الدولي ?هزيمة ?الإرهاب ?وعقد ?التسويات ?وإعادة ?بناء ?ما ?هدّمته ?الحروب ?والصراعات. العالم يتغير بشكلٍ سريعٍ ونوعيٍ غيرِ منتظَم وعلى شكل صدمات تبدو وكأنها عصية على التفكيكِ والتحليلِ والفهم. وأعتقد أن ثمة حاجة مُلحة لإعادة إنتاج منظومة علاقات دولية جديدة تتأسس على الوعي بالمفهوم الشامل للقوة، وعدم اقتصارها على القوة العسكرية، ذلك أن من ينتج التكنولوجيا اليوم، ويبني منظومته الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتعليمية استناداً إلى أحدث تقنيات وإبداعات التكنولوجيا التي يشارك في إنتاجها، هو من يملك القوة الحقيقية، بمفهومها الشامل، وهو القادر على صناعة المستقبل والإسهام في تشكيله بثقة واستدامة. إنّ دولة الإمارات تحاول أنْ تنشر هذه الأفكار في منطقة مليئة بالصراعات والبؤر الساخنة، ونتمنى أنْ يكون النموذج التنموي الذي تمثله دبي وأبوظبي حاضراً في كل المنطقة العربية: في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، لكننا نلحظ، للأسف، أن إيران عنصر أساسي لعدم الاستقرار في كل هذه الملفات، بدل أن تكون عنصر تهدئة. إن دول الخليج تشعر بالقلق من توظيف إيران للميليشيات المسلحة ودعم الأنشطة الإرهابية، وهذا جهد سلبيّ سيؤدي في النهاية إلى استنزاف مقدرات دول المنطقة عرباً وإيرانيين، ما يؤثّر سلباً في التنمية والحوكمة، ويعزز في المحصلة التطرف والإرهاب والانقسامات وخطاب الكراهية. تنظر دول الخليج العربية إلى إيران باعتبارها قوة إقليمية مهمة، لكنها ترفض محاولات إيران للهيمنة على المنطقة. ولا تمانع دول الخليج في الحوار مع إيران، لكنها تريد أن تتحقق من أن هذا الحوار سيكون بنّاءً وحقيقياً، وأنه سيرتكز على أسس احترام سيادة الدول وحدودها، ويلتزم المبادئ والقوانين الدولية، ويتشارك في مكافحة الإرهاب. لكنّ غياب الثقة يُمدّد الصراع ويؤجّل إجراء أي مبادرة حقيقية للتفاهم. غياب الثقة لا يفسّر وحده طبيعة الخلاف، بل الصحيح أيضاً أن سعي إيران لتعديل موازين القوى في الإقليم لصالحها يعرقل أيّ احتمالية لحوار متوازن ومستدام يحقق الاستقرار وينزع عوامل الصراع وتصادم المصالح إلى حدّ تبني «المعادلات الصِفرية». إن تحديد مسؤولية الأقوياء والأطراف الإقليمية الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط يتطلب الانتباه إلى أنّ أيّ مقاربة لنزع فتيل التوتر والصراع في منطقة الشرق الأوسط ينبغي أن تبدأ بإيجاد «توازن في طموحات القوة» بين الأطراف الإقليمية المتصارعة، إلى جانب تحديد وتقريب وجهات النظر المتباينة بين هذه الأطراف بشأن طبيعة التهديدات المتبادلة. ونعتقد أنّ الإرهاب، سنيّاً كان أم شيعياً، هو أحد أبرز هذه التهديدات. وأيّ هيكل للأمن الإقليمي، يضم العرب وإيران، ويناط به تحقيق السلم الإقليمي والأمن الجماعي في المنطقة، يجب أن يتأسس على رفض وجود قوة إقليمية عظمى أو مهيمنة. ولقد ثبت تاريخياً أن مثل هذه النزعات هي سبب رئيس للصراعات والحروب وعدم الاستقرار واستنزاف موارد الجميع. إيران لم تَخلق نموذجاً جاذباً لسكان المنطقة، إنها، وفق الخبراء، ترنو لأن تكون «دولة هيمنة إقليمية كبرى، بإمكانات داخلية متواضعة، ومن دون إغراء ذي معنى للجوار يتعدى العصبية الطائفية وتسعير الحروب الداخلية في المُحيط». وهذه الحروب مهما طالت، لا يُمكنها أن تخلق هيمنة مُستدامة. وتلك إحدى أكبر مسؤوليات الأقوياء في الشرق الأوسط، التي لا يمكن فصلها عن مسؤوليات الدول والقوى العالمية والمنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة وأميركا وأوروبا وروسيا والصين. والأغلب أن من أسباب عدم قيام هيكل أمني إقليمي يضم العرب وإيران غياب الجهات الضاغطة لإنجاز هذا الهيكل والضامنة لقيامه وتنفيذه، وانتظار القوى الدولية أنْ يتمّ قيام هذا الهيكل عبر توافق الأطراف الإقليمية في المنطقة بأنفسهم على إقامته، من دون المبادرة الدولية حتى بتحديد ماهيّة القضايا والملفات التي تحتاج إلى ضمانات من قبل القوى العالمية الكبرى. إنّ التيار الغالب في دول الخليج العربية يؤيد الحوار مع إيران وتبريد الصراعات في مجمل ملفات المنطقة، ونحن ندعو إيران للاستجابة لمبادرات التهدئة الخليجية، ونقدّر، وفق فهمنا للقوة بمعناها الشمولي الذي أوضحناه سابقاً، أنّ من مصلحة إيران ألا تغترّ بشهوة القوة العسكرية، فذلك يخفي في طياته ضعفاً في الداخل الإيراني سيكشفه المستقبل لا محالة. تناقضات إيران تتمثل في شهوة الهيمنة الخارجية مقابل هشاشة التنمية في الداخل الإيراني. ولنا أن نتساءل: لماذا لا تجرّب طهران طريقاً جديداً؟ لماذا لا تُجرّب الحوار والتهدئة والاحترام المتبادل مع جيرانها العرب؟ دولة الإمارات تعتبر أنّ الأمن الإقليمي مفهوم مترابط لا يتجزأ، ولا يتحقق إلا من خلال إطار جماعي ورؤية مشتركة تتأسسان، في حقيقة الأمر، على مبدأ احترام السيادة الإقليمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ولقد كانت دولة الإمارات أول دولة خليجية ترحب بالتوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني، وعبّرت الإمارات عن أملها في أنْ يصاحب الاتفاق النووي التاريخي رغبة إيرانية حقيقية في المساهمة الإيجابية في إطفاء النيران المشتعلة في الإقليم وإبعاد المنطقة عن فتن الطائفية والتطرف والإرهاب. لكن الإمارات ترى اليوم أنها أصيبت بخيبة الأمل في أن يكون التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني بداية مرحلة جديدة مفصلية لانخراط إيران الإيجابي في صيانة البيئة الأمنية الإقليمية من التخريب والفوضى وعناصر ومصادر الفوضى واللا استقرار. وقد عبّر عن ذلك سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي بقوله «لو أنّ إيران بذلت مع الدول العربية الجهد والحماسة نفسيهما اللذين بذلتهما لحلّ ملفها النووي مع الغرب لحلّت جميع مشكلاتها مع الدول العربية، لكنّ الجدية الإيرانية تجاه العرب غير موجودة»، مضيفاً: «ما نراه مجرد أقوال لا أفعال». مسؤولية دول الخليج وإيران وتركيا ومصر والأردن دعم مشروع «المصالحة الوطنية» و«التسوية التاريخية» في العراق، من أجل تأسيس مرحلة جديدة لما بعد «داعش»، بحيث تتجه الموارد والطاقات والإمكانات نحو المصالحة والتنمية والبناء والتعاون بدلاً من إهدار الطاقات. إنه وقت التسويات والمصالحات في الشرق الأوسط، ومن المهم أن تكون تسويات عادلة، لأن غياب العدالة والتوازن سيعيد الصراعات مجدداً وبوتيرة أكثر عنفاً.