في الأفلام السينمائية وبين العامة وحتى بعض أقطاب السياسة، لا يزال هناك اعتقاد شائع بأن التحليل الأكاديمي هو تحليل نظري وقد يكون بعيداً عن الواقع. واستخدام بعض العلميين المصطلحات العلمية المتخصصة دون شرحها للعامة تدعم هذا الاعتقاد، وتجعل الفجوة كبيرة بين الخبراء الأكاديميين وغير المتخصصين. وهذا خطير، خاصة عندما تكون المشاكل التي يعالجها هؤلاء الخبراء مرتبطة بالحياة اليومية لغالبية الناس، ولا شك أن اشتراك الخبراء في مقالات صحفية في الجرائد كسرت هذه الفجوة إلى حد كبير وشجعت الخبراء على كسب التحدي، أي كيفية شرح نظريات العلم بطريقة مبسطة، وهكذا يتم التواصل مع جماهير غير المتخصصين، ولفائدة الجميع، ورغم أن بنوك الفكر تكتب عادة لصانعي السياسة، فإن فائدة هؤلاء وغيرهم أننا لا نستطيع المضي في التخطيط السياسي أو الاجتماعي دون الاعتماد على مفاهيم ومنهجيات أساسية يقدمها العلم. الدافع لهذه المقدمة هو الدعوة للاهتمام بما يحدث في اللقاءات السنوية للجمعيات العلمية المتخصصة، ليس فقط من جانب المتخصصين، وإنما من جانب كل المهتمين بالشأن العام، سواء كانت هذه الجمعيات تُعالج الاقتصاد أو القانون أو علم الاجتماع أو السياسة. المثال الذي أركز عليه هنا هو المؤتمر السنوي الـ58 لرابطة العلاقات الدولية، وهي بمثابة الأمم المتحدة للمتخصصين في هذا المجال، سواء كانوا أساتذة جامعة، أو دبلوماسيين أو عاملين في مجال الإعلام. جاءت هذه الرابطة كفكرة أميركية، وعندما انعقد مؤتمرها الأول سنة 1959، حضرته أعداد بسيطة معظمها من أساتذة الجامعة الأميركية، لكن تغير هذا الوضع خلال 58 عاماً التالية، فعدد المشاركين هذا العام بلغ 5.684، وهم من تم قبول أبحاثهم من أصل 8.026 متقدماً. والنتيجة هي كم هائل من الموائد المستديرة، وورش العمل، وحلقات المناقشة، على مدى أربعة أيام في مدينة بالتيمور الأميركية. وبسبب هذا العدد الهائل من حلقات البحث والمناقشة، فإنك تُصبح كالفراشة تتنقل بين حلقة وأخرى، حتى تُصاب بالإجهاد الجسمي والفكري، ثم تحاول أثناء الاستراحات تبادل الأفكار حول حلقات البحث التي لم تستطع حضورها، كما أن هناك أكثر من 70 ناشراً عالمياً جاؤوا لعرض آخر إصداراتهم، مما يزيد من هذا الغذاء العلمي والعالمي في هذه الفترة القصيرة. على مدى هذه السنين، تغير الكثير في «الأمم المتحدة العلمية»، من الموضوعات إلى نوعية المشاركين، فأصبحت أكثر تمثيلاً للعالم، سواء في وجوه وألوان المشاركين أو في نوعية الموضوعات المطروحة للنقاش، فبينما كان التركيز سابقاً على الدول الكبرى والمنظمات الدولية والإقليمية، يتزايد الآن عدد الموضوعات المتعلقة بدول ومنظمات الجنوب، أو ما كنا نسميه «العالم الثالث»، فمثلاً كانت هناك حلقات مناقشة عن البترول وانخفاض أسعاره وتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي وعلى الدول المنتجة. وكانت هناك أيضاً مناقشة للاتفاق النووي الإيراني وسياسات ترامب، و«الربيع العربي» والحروب الأهلية، وتدهور مكانة الدولة في كل من اليمن وليبيا وسوريا، وتدفق المهاجرين. كنت أتمنى المزيد من التمثيل العربي في مثل هذه المؤتمرات العالمية العلمية.. لا سيما أن مفهوم «القوة الناعمة» أو «كيفية اتخاذ القرار» بدأ يطرق في مثل هذه المؤتمرات، وأصبحت ذا تأثير سياسي عالمي، وسيستمر هذا التأثير. ---------------- *أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية -القاهرة