سألني أصدقاء كثر، قبل ربع قرن، ما الذي جاء بي إلى موريتانيا وكنت أنهيتُ دراسة الهندسة المدنية حديثاً وأصدقائي في جلهم توجهوا إلى الخليج حيث العمل الواعد بمال ومستقبل. في أوراقي القديمة إجابة من كلمة واحدة على هذا السؤال الذي سألته أيضا لنفسي قبيل قبولي بعرض العمل المتواضع آنذاك. يومها كتبت تلك الكلمة وأحطتها بدائرة كبيرة: أذهب من أجل «المعرفة». أذهب لأتعرف على الغرب العربي، على بلد ربما لن تتاح لي فرصة الذهاب إليه مرة ثانية. ولكم أعتز بتلك الإجابة الآن، وأبدأ بها ملاحظاتي اليوم. المعرفة هي الكنز المجاني المنثور حولنا في الكتب وفي تجارب الحياة. هي الأغلى لكنها الأكثر وفرة والأكثر كرماً بذاتها، تمنح نفسها لروادها. كلما أبحرنا في المعرفة، اشتد وعينا وصار أكثر عمقاً وحدة، واقتربنا مما يمكن وصفه بـ«الوعي الواعي». لا ضرورة للتبجح بمحاولة تعريف «الوعي الواعي»، لكن يمكن التأمل في بعض تمثلاته، ويمكن أن نعيه أكثر لدى مقارنته بضده، أي «الوعي الناقص». «الوعي الواعي» هو ذلك الواعي بنقصه والذي لا يرى اكتمالاً في ذاته بل يواصل رحلة المعرفة الأبدية، أما «الوعي الناقص» فهو الوعي الموهوم باكتماله، والذي لا يرى نقصاً في ذاته ويقفل باب المعرفة. لنتأمل معاً تسعة تمثلات وتقابلات بين «الوعي الواعي» و«الوعي الناقص»: التمثل الأول في التناظر بين نوعي الوعي المتقابلين والذي نبدأ به هنا ليكن «وعي الرحلة مقابل وعي الوصول». هو المدخل الأولي للتفريق بين وعي يرى المعرفة والحياة والتعلم رحلة لا تنتهي، ووعي ناقص منهمك في «الوصول». الوعي الواعي ينتقل من مرحلة وعي إلى أخرى في رحلة لا تنتهي، أما الوعي الناقص فيظن أنه «وصل» وأنه يمتلك الوعي المطلق والمغلق. التمثل الثاني للوعيين هو «وعي السندباد مقابل وعي السكون»، وهو امتداد لوعي الرحلة مقابل وعي الوصول، أو هو رؤية له من زاوية مغايرة. السندباد هو الباحث الشغوف بمعرفة الناس والجهات، المنطلق بلا بوصلة، متلذذاً باكتشاف الجديد. وعلى الضد منه وعي السكون، المُتجمد، المتشكك في الآخرين، المُكتفي بالوعي الموروث والمنقول في مكان سكونه. التمثل الثالث هو «وعي الحرية مقابل وعي القسرية»: في الوعي الواعي الحرية هي قلب الحياة والكون وهي الاختيار، ولا مهادنة في ذلك. أما الوعي الناقص فالقسرية جزء منه، والاستسلام لها لا محيد عنه، وهذه القسرية هي التي تقود في نهاية المطاف إلى إغلاق الوعي وإنهاء الرحلة باكراً بزعم الوصول. التمثل الرابع هو «وعي الماضي والتواريخ المتعددة مقابل وعي التاريخ الواحد»، وهذا في غاية الأهمية لأنه يفرق بين الماضي والتاريخ. الماضي هو ما حدث فعلاً في الماضي، أما التاريخ فهو ما كتبه أشخاص عن الماضي، وتضمن انتقائيتهم، وتفسيرهم، واختياراتهم، وانحيازاتهم. نحن لا نعرف الماضي، نعرف فقط التاريخ أو بالأحرى التواريخ. لهذا فكل أمة لها تاريخها الخاص. وعي الماضي والتاريخ مركزي لأنه يفتح بوابات الأسئلة العريضة والشك الإيجابي في كل ما وصلنا، ويسهل علينا الولوج للأنسنة. وهذه الأخيرة هي جوهر التمثل الخامس، وهو «وعي الأنسنة مقابل وعي الانغلاق»، وهنا يتمدد الوعي الواعي إلى ما بعد الذات إلى الآخر ويستكشف فيه الجدة ومساحات التشارك الإنساني. التمثل السادس هو «وعي الجمال مقابل وعي الحكم المسبق»، وفيه يتبدى الوعي الواعي منحازاً للغوص في الجمال الكامن في الأشياء والناس والحياة، على الضد من شهوة الوعي الناقص بإطلاق الأحكام وفق معياريات مُسبقة الصنع ومتحفزة للتقييم. وامتداداً من وعي الجمال يأتي التمثل السابع، وهو «وعي التموج مقابل الوعي الخطي»، وهو التمرد على الأفكار الخطية الحاسمة والسرديات «التاريخية» المتبجحة بامتلاك أسرار الماضي وحسم خيارات المستقبل. وعي التموج هو السير «نحو المُستقبل» في منحنيات ودوائر تستكشف الجوار وتبدع في كل الاتجاهات، ولا تقع فريسة الوهم الخطي (الغيبي منه والحداثي). التمثل الثامن هو «وعي الرمادي مقابل وعي الأبيض والأسود»، وهو تمثل لئن كان وضوحه يوفر شرحه، فإن تجسده في الواقع والممارسة يظل الأصعب، نظراً لإغواء ثنائية الأسود والأبيض: معنا أم ضدنا، أنا الصواب المطلق وأنت الخطأ المطلق، وهكذا. وعي الرمادي هو الإقرار بأن هذا الرمادي هو الأكثر اتساعاً في الحياة والأفكار والممارسات. أختم بالتمثل التاسع، واسميه «وعي البحر مقابل وعي النهاية»، وهو التأمل في البحر، في أسراره وكينونته، في صوته ولونه، في أمواجه التي تتلاحق وراء بعضها وتنهي رحلتها الميؤوس منها على الشاطئ حيث تنتحر بفرح هناك. ذلك يعني الامتداد واللانهاية. وذلك كله يعني التضاد التام مع وعي النهاية، ووعي إغلاق الملف. إنه وعي إبقاء كتاب الحياة الزاخرة مفتوحاً على كل الاتجاهات والاحتمالات.