ترامب والنظام العالمي
يطرح انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة ومجيئه من خارج المجتمع السياسي الأميركي التساؤل بشأن ما إذا كان العالم على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها المزيد من تفكك النظام العالمي كما نعرفه اليوم، وبالتالي الوقوف أمام تخمينات مفتوحة حول إعادة بناء نظام عالمي آخر.
من الواضح أن منطق التفكك أصبح سمة أساسية للوعي الغربي الراهن، يجري التنظير له اقتصادياً وثقافياً. وعلى عجلة موسم الانتخابات القادمة في أكثر من بلد أوروبي، تنتظر أحزاب اليمين ركوب الموجة لتهزم أحزاب اليسار والوسط، بالمراهنة على نزق الناخبين واستثمار فوز ترامب.
ومن الليبرالية إلى «النيوليبرالية» إلى عهد ترامب، تمضي ثلاث مراحل تسببت فعلياً في اهتزاز قواعد النظام العالمي الذي كان يبدو عصياً على الاهتزاز. وكانت التوازنات القديمة قد أسهمت في تقسيم ألمانيا وكوريا، بالتوازي مع انقسام دولي أشمل توزع آنذاك بين معسكرين، غربي وشرقي. ثم جاءت تداعيات الحرب الباردة التي انتهت بسقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشيوعي، وبعد ذلك عززت أوروبا من التئام وتوحد القارة العجوز وراحت تلتهم دول أوروبا الشرقية وتضم ميراث الاتحاد السوفييتي قطعة إثر أخرى، ثم تم الترويج لسياسة الفوضى غير الخلاقة، واختبر مارد القطب العالمي الأحادي متانة وفاعلية قوته بغزو العراق وتحويله إلى حقل تجارب لتأمل انهيار الدولة في مجتمع متعدد مذهبياً وعرقياً.
وحالياً نشهد مرحلة تفكك النظام العالمي برمته، والذي كان قبل أقل من ثلاثة عقود يوصف بالجديد. وبالنظر للانسحاب البريطاني المفاجئ من الاتحاد الأوروبي، يبدو أن العالم الغربي سيشهد المزيد من الانقسامات التي يجري التنظير لها من قبل الأحزاب والقوى اليمينية الصاعدة، التي تراهن على الانتخابات في أوروبا لتجسيد النزعات الشعبوية الناشئة.
وعلى وقع الانسحاب البريطاني هبط سعر الجنيه الإسترليني بمعدل 16?، ومع تلويح الحكومة الحالية بالرغبة في تسريع مفاوضات الخروج، فإن الخسائر المالية مرشحة للزيادة، إلى جانب توقع اتجاه الإسكوتلنديين والإيرلنديين نحو خيار الاستفتاء على الانفصال عن بريطانيا، بما لذلك من دلالة على تعمق نزعة التفكك والشعبوية المتعصبة التي تزدهر في الغرب.
كما جاء انتخاب ترامب قبل انقضاء العام الجاري ليستكمل مؤشرات نزعة التفكك التي تطال المفاهيم والقيم المثالية المتصلة بالحداثة الغربية ومخرجاتها، وبخاصة إذا ما نظرنا إلى صعود ترامب بالتوازي مع موجة الشعبوية وصعود أحزاب اليمين في أوروبا، وتزايد توقعات المنافسة الساخنة التي سوف يشعلها مرشحو اليمين في الانتخابات المنتظرة عام 2017 في أكثر من بلد أوروبي، والتي قد تحمل نتائجها العديد من المفاجآت، اتساقاً مع المزاج السائد للناخب الغربي، طبقاً لما آلت إليه الانتخابات الأميركية من انزياح جذري ستكون له تداعياته.
ولعل من أبرز تداعيات فوز ترامب انتقال الدعوات المطالبة بانفصال كاليفورنيا من مواقع التواصل الاجتماعي وخانة الأخبار الطريفة إلى صفحات الجرائد، ومن بينها صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»، التي نقلت عن أنصار الحركة المطالبة بالانفصال خبر تقدمهم بعريضة إلى مكتب الادعاء العام بشأن إجراء استفتاء لانفصال الولاية، ومطالبتهم الادعاء العام بإطلاق تسمية رسمية على طلبهم بإجراء الاستفتاء وتسجيله بشكل رسمياً. وهم يأملون السير على خطى البريطانيين من خلال إجراء استفتاء الانفصال عام 2019. وضمن الترويج للانفصال جرى التأكيد على أن ولاية كاليفورنيا تعتبر خامس اقتصاد في العالم، بإنتاج اقتصادي بلغ العام الماضي أكثر من 2.64 تريليون دولار، لتتفوق على الناتج الاقتصادي لفرنسا.
ورغم أن هذه الموجة الانفصالية تبدو ملحقة بتظاهرات الاحتجاج والرفض التي أعقبت فوز ترامب، إلى جانب صعوبة تحقق الانفصال عملياً، فإن طرح الفكرة من حيث المبدأ وتداولها إعلامياً يتجاوز الطرافة ويؤسس لميول مستقبلية للتفكك.