أميركا وحدود الديمقراطية
الديمقراطية كائن متطور، ويمكن أن يصل إلى أرقى أنواع المجتمعات، كما هو الحال في كندا والنرويج والسويد، كما يمكن أن تخسف بها الأرض فتخرج بقرار الحكم بالإعدام على أعظم فلتة عقلية في تاريخ الإنسان كما فعلت ديمقراطية أثينا يوماً ما بسقراط الفيلسوف فحكمته بالإعدام بشرب جرعة السم. كما يمكن أن يصوت ستين مليون من الأميركيين على انتخاب رجل لم يكن كثيرون يتوقعون فوزه هو الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.
والديمقراطية، هذا الكائن الذي صنعه البشر يختصر في ثلاث جمل: حكم الأكثرية، وضمان حقوق الأقلية، وتمثيل صحيح لآليات الانتخاب، وهذا يعني بكلمة واحدة مجتمع العدل. ولذا فالديمقراطية ليست صناديق انتخاب، بل وعي الناس. والخلاصة التي وصل إليها الفيلسوف الفرنسي «آلان تورين» عن الديمقراطية، بمعنى التمثيل الفعلي، كما يقول، إنها غير دقيقة لدخول التلاعب فيها. ولأن الوعي هو رصيد الانتخابات، فلا يعني شيئاً أن تنتخب جموع من غير المتعلمين، لأنهم قد ينتخبون ما هو ضد مصلحتهم، كما حصل في انتخاب الممثل «أرنولد شوارزنيجر» ذي العضلات، حاكماً لكاليفورنيا، بسبب علاقة زواجه من عائلة كينيدي، ودخوله إلى نادي أصحاب المال والنفوذ، وتمويل حملته الانتخابية. ومن قبل مع ريجان الذي كان يقوم بدعاية الجبنة في التلفزيون ويمثل أفلام «الكاوبوي» في هوليوود، أو بوش المعروف بأنه قد نجح في الجامعة بالكاد!
وفي ثلاثة أعداد أصدرتها مجلة «الشبيجل» الألمانية عن الصراع على القمة في أميركا في عام 2016 أيدت عدم نجاح دونالد ترامب، ففي العدد الأول قالت إنها رسالة أن تنقذ هيلاري كلينتون العالم من فوز ترامب. وفي العدد الثاني خرجت علينا بصورة ترامب وكلينتون كلاهما مرشوش بالوحل وتحته فقرة سيناريو التراجيديا، عما يجري في أقوى دولة على وجه الأرض! ولكن ألم يكن الاتحاد السوفييتي أقوى دولة على وجه الأرض فخر صريعاً وهو يمتلك أسلحة إفناء العالم مرات؟ وأما العدد الثالث من المجلة فقد رابني أمره وهرعت لقراءته فالعنوان خطير ومنذر «نهاية العالم»، فظننت أن البحث فلكي عن مذنب سيضرب الأرض! لاكتشف أن ثلثي صفحات العدد تتحدث عن تحدٍّ يواجه العالم وليس فقط أميركا، فالرجل عنده من الصلاحيات خمسة، بدء إصدار القوانين وانتهاء بالكبس على الزر النووي!
ومن اللافت أن الرجل هدد باعتقال كلينتون ورميها في الحبس، كما كان خلف تصريحات مثيرة للجدل مثل بناء سور الحدود العظيم، في مواجهة المكسيك، وأنه سيجبرها على تحمل تكاليف البناء. وزعيم أميركا الجديد هذا دعمته جموع هائلة من الأميركيين لأنه أقنعها بأنه سيعيد مجد تلك المدن الصناعية (نموذج ديترويت)، وهو يعرف تماماً أن التاريخ لا يمشي للخلف.
وفي العدد «در شبيجل» تساءلت كاتبة تقول: هل خسرت السيدة كلينتون لأنها، أو على رغم أنها امرأة؟ وخلاصة الأبحاث من عشرات الأشخاص والمؤسسات والأمكنة تفيد أن الرئيس المنتخب لا يعرف أحد الكيفية التي سيقود بها أميركا، بل ربما هو ذاته لا يعرف إلى أين المسير؟
والسؤال من انتخب هذا الرجل الذي يصفه منتقدوه بأنه لا يمتلك حنكة سياسية أو معرفة فلسفية أو ثقافة عالمية. والجواب إنها جموع الناخبين البيض في أميركا من الطبقة العاملة الريفية، في وجه الطبقة المثقفة والعالمية والملونة والمدركة لحركة التاريخ ومعرفة العالم، فهل سيكون هذا الرئيس الـ45 للولايات المتحدة مفاجئاً أيضاً في أدائه، على عكس كل التوقعات والانتقادات التي يكيلها له معارضوه؟