التعليم والصحة وعتَه الشيخوخة
تُجسِّد الشيخوخة أو التقدم في العمر، تراكماً للتغيرات التي يتعرض لها الفرد عبر السنين والعقود، على الصعيد البدني، والنفسي، والاجتماعي. وفي الوقت الذي تحمل فيه الشيخوخة جوانب سلبية، مثل تباطؤ رد الفعل، أو تراجع القدرة على الحفاظ على التوازن، نجد أنها تحمل أيضاً معها جوانب إيجابية، مثل تعمق واتساع مدى الحكمة، وزيادة الإدراك بمعاني الحياة المختلفة، والتركيز على أولوياتها الأهم.
وتعتبر الشيخوخة ضمن أهم عوامل الخطر المرتبطة بزيادة احتمالات الإصابة بغالبية الأمراض والعلل التي تصيب أفراد الجنس البشري، ولذا من بين 150 ألف شخص يتوفون يومياً حول العالم، نجد أن ثلثيهم يلقون حتفهم نتيجة أسباب مرتبطة بالتقدم في العمر، ومن بين هذه الأسباب، تزايد خلال السنوات والعقود الأخيرة نصيب عَتَه الشيخوخة، حيث تشير التقديرات الدولية إلى أن عدد الوفيات الناتجة عن عتَه الشيخوخة يزيد على 1,7 مليون وفاة سنوياً، بل إنه في إنجلترا وويلز، يحتل حالياً عتَه الشيخوخة رأس قائمة أسباب الوفيات، متخطياً بذلك أمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، وبنسبة تقارب 12 في المئة من جميع الوفيات، أو 61 ألف وفاة سنوياً، حسب مكتب الإحصائيات الوطنية ببريطانيا.
ويُفسر الأطباء هذه الزيادة، على أنها نتيجة زيادة متوسط أعمار أفراد المجتمعات البشرية الحديثة، ضمن الظاهرة المعروفة بتَشَيُّخُ المجتمعات، من جَرّاء انخفاض الوفيات من أسباب أخرى، وخصوصاً وفيات الأمراض المعدية، ولكن في الوقت الذي تظهر فيه الدراسات الحديثة أن (عدد) المصابين بعتَه الشيخوخة، تظهر هذه الدراسات أيضاً أن (معدلات) أو نسب الإصابة تتراجع. أحدث تلك الدراسات نشرت نتائجها في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (JAMA Internal Medicine)، وأظهرت انخفاضاً في معدلات الإصابة بعتَه الشيخوخة بين من تخطوا سن الخامسة والستين في الولايات المتحدة، من 11,6 في المئة عام 2000 إلى 8,8 في المئة فقط عام 2012. وتتوافق نتائج هذه الدراسة الأخيرة مع نتائج دراسة تحليلية أجريت العام الماضي، وشملت خمس دول أوروبية، وأظهرت نتائجها انخفاضاً مماثلاً في معدلات الإصابة بعتَه الشيخوخة، على الأقل في بعض الدول.
ويدور تفسير هذه الظاهرة غير المتوقعة حول محورين أساسيين، مستوى التعليم وخصوصاً في المراحل المبكرة من الحياة، ومستوى الصحة ونوعية الرعاية الصحية، أيضاً منذ المراحل المبكرة من الحياة، فبخلاف الفارق في معدلات الإصابة بعتَه الشيخوخة بين المجموعتين في هذه الدراسة الأميركية، كان الفارق الآخر البيّن بينهما هو التباين في عدد سنوات التعلم والدراسة، ففي المجموعة التي خضعت للدراسة عام 2000، وكانت تعاني من ارتفاع في معدلات الإصابة -11,6 في المئة- بلغ متوسط مجمل سنوات التعلم 11,8 عام. أما مجموعة سنة 2012، والتي انخفضت معدلات الإصابة لديهم إلى مجرد 8,8 في المئة، فكان متوسط مجمل سنوات التعلم لديهم هو 12,7 عام، وهو ما يعني أن زيادة عدد سنوات التعلم بحوالي سنة واحدة فقط، سواء من خلال المدرسة أو لاحقاً في الجامعات، ارتبط وترافق بانخفاض في معدلات الإصابة بحوالي ثلاثة في المئة.
ويحتمل أن تكون هذه العلاقة بين معدلات الإصابة وسنوات التعلم، هي نتيجة التحديات العقلية والرياضة الذهنية، اللتين تترافقان مع سنوات الدراسة، ما يوفر حماية لخلايا المخ في المراحل المتأخرة من الحياة، كما يحتمل أيضاً، أنه مع التقدم في العمر وبدء الخلايا العصبية في الاضمحلال والانحلال، تساعد سنوات الدراسة باقي خلايا المخ على إعادة تنظيم الوصلات العصبية الكهربائية بداخله، والاعتماد على خلايا أخرى كانت كامنة، واستغلال طاقات المتاح من الخلايا السليمة بحد أقصى، وهو ما يساعد في النهاية على تعويض التدهور المصاحب لعتَه الشيخوخة، أو على الأقل منع وتأجيل ظهور الأعراض.
السبب الآخر في تراجع معدلات الإصابة بعتَه الشيخوخة، قد يكون مرده إلى تحسُّن مستوى صحة الفرد خلال العقود القليلة الماضية، بداية من غذاء وصحة الأم أثناء الحمل، والتطعيمات الطبية للأطفال الرضع وصغار السن، وارتفاع مستوى ونوعية الرعاية الطبية، وتراجع معدلات التدخين، حيث إنه من المعروف والثابت، أن صحة المخ، والجهاز العصبي برمته، وقدرتهما على تأدية وظائفهما بشكل أفضل، ولمدة أطول من العمر، يرتبطان بصحة الجسد عموماً، وحتى في ظل ارتفاع معدلات الإصابة ببعض الأمراض المزمنة، مثل السكري، والسمنة، وارتفاع ضغط الدم، بين عامي 2000 و2012، أو العامين اللذين أجريت فيهما مرحلتي الدراسة سابقة الذكر، فنظراً إلى التطورات الطبية في إدارة هذه الأمراض، والاختراقات العلمية على صعيد الأدوية والعقاقير الطبية القادرة على الحد من تأثيراتهم السلبية، انخفض وقع تلك الأمراض على صحة المخ والجهاز العصبي، ووفر حماية نسبية من مرض لا يوجد له حتى الآن علاج شاف، أو ما يمكن وقف تدهور وتراجع القدرات العقلية للمصابين به.