لم تكن هناك أي مبالغة حين أكدنا في مقالنا الماضي «عاصفة سبتمبر وبداية الحروب الثقافية» (12 نوفمبر 2016) أن الأحداث الإرهابية التي ضربت مواقع القوة الأميركية في 11 سبتمبر 2001 مثلت في الواقع قطيعة تاريخية في ممارسات النظام العالمي. ويدل على ذلك الأصداء العميقة لهذا الحادث الإرهابي سواء من الناحية الدولية والسياسية والثقافية، ونستطيع أن نحدد نوعية هذه الأصداء لو قمنا بالتحليل العميق للخطابات السياسية التي أصدرها القادة سواء القادة السياسيون الأميركيون والقادة السياسيون الغربيون بشكل عام. ويمكن القول إن بعض هذه الأصداء، وخصوصاً ما تعلق منها بالأحكام والتقييمات التي أطلقت على العرب والمسلمين، بحكم أن الإرهابيين الذين قاموا بالهجوم يدينون بالإسلام وينتمون في الوقت نفسه إلى عديد من البلاد العربية، هي انعكاس لمزاعم ما يطلق عليه «المركزية الغربية» Western- centrism والتي تعني أن الثقافة الغربية أسمى من كل الثقافات الأخرى، وأنه يمكن بالاستناد إلى قيمها ومعاييرها تحديد درجات تقدم أو تخلف أي مجتمع إنساني معاصر. وقد اعتمدت الحملات الاستعمارية الغربية على العالم العربي والإسلامي على مزاعم «المركزية الغربية»، والتي بالاستناد إليها صاغ المفكرون الغربيون الذين برروا شرعية الاستعمار الغربي نظرية «عبء الرجل الأبيض»، والتي تعني المسؤولية الأخلاقية للمستعمرين البيض في تمدين الشعوب «البربرية» والتي تعيش في دول العالم الثالث. وقد برزت في خطابات القادة الغربيين، التي انطلقت بعد الهجوم الإرهابي في عاصفة سبتمبر بحكم اللا شعور التاريخي، المزاعم الكاذبة للمركزية الغربية. وقد ظهر ذلك جلياً في المقارنة التي أجروها بين الأمم والشعوب في القدرات التكنولوجية. فقد ثارت أقوال بعد وقوع الحدث مباشرة، تستبعد أن يقوم بهذا العمل الإرهابي فائق التخطيط ودقيق التنفيذ، إرهابيون عرب أو مسلمون، سواء كانوا يتبعون تنظيم القاعدة (بن لادن) أم طالبان، على أساس أن هذه المنظمات الإرهابية وهؤلاء الإرهابيين العرب لا يمكن أن يصلوا إلى هذا المستوى التخطيطي والتقني الرفيع. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل، أليس في هذه الأقوال تسليم بالمقولات الاستشراقية عن سمو الغربيين عن غيرهم، وعن دونية «الشرقيين» (العرب والمسلمين)، وعجزهم عن الارتقاء إلى المستوى الغربي في التخطيط والتنفيذ؟ أو ليس في ذلك تجاهل لبروز أجيال جديدة من الإرهابيين درسوا في أبرز معاهد الغرب، واستطاعوا أن يكتسبوا مهارات بالغة التفوق في التكنولوجيا والبحث العلمي وعلوم الكمبيوتر، وتمكنوا من ممارسة كل فنون الثورة الاتصالية المعاصرة؟ ويكفي في الرد على هؤلاء تأمل كيف استطاع تنظيم «داعش» الاستخدام الفعال لشبكة الإنترنت في الترويج لأفكاره المتطرفة وتجنيد حتى الأجانب في صفوفه. ويمكن القول إن الزعماء السياسيين الغربيين الذين تشبثوا بمزاعم المركزية الغربية فاتتهم الدراسة المنهجية لجوانب التحديث الحضاري التي حدثت في عديد من البلاد العربية والإسلامية منذ الخمسينيات بعد زوال الحقبة الاستعمارية، وخصوصاً في مجال التعليم الأساسي والتعليم الجامعي على وجه الخصوص، حيث أرسلت هذه الدول آلاف المبعوثين إلى الخارج للتخصص الدقيق في عديد من العلوم الطبيعية والاجتماعية والسياسية. وأصبحت هناك أجيال من الباحثين العرب والمسلمين الذين أتقنوا منهجية البحوث الطبيعية بل إن بعضهم حصل على جائز «نوبل» في الطبيعة مثل «عبدالسلام» العالم الباكستاني، و«أحمد زويل» العالم المصري العربي الأشهر الذي حصل على جائزة «نوبل» في الكيمياء بعد اختراعه المبهر لزمن جديد هو «الفيتمو ثانية» والذي أثر تأثيراً عميقاً في مسار العلم في القرن الحادي والعشرين. ويمكن القول إن القادة الغربيين لم يدركوا أن النموذج القديم للأمن القومي قد سقط، والذي كان يقوم على دراسة الحدود، وقام بديلاً له نموذج جديد للأمن القومي يقوم على نوعين من الحروب هما الحروب المعلوماتية Cyber war وحروب الشبكات net war. وهذه الحروب الأخيرة يستخدمها تجار السلاح على المستوى العالمي وتجار المخدرات، وأخطر من ذلك التنظيمات الإرهابية في التواصل بين القيادات والأعضاء. وقد شرح مجموعة من الباحثين الأميركيين هذا النموذج الجديد للأمن القومي في كتاب نشر بعنوان «في معسكر أثينا». وقد عرضنا لهذا النموذج الجديد للأمن القومي في كتابنا «شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي» (القاهرة دار نشر ميريت 2009). وقد اهتممنا على وجه الخصوص بحروب «الشبكات» لأنها تشير إلى الصراعات التي تؤثر فيها المعلومات على مستوى كبير بين الأمم والمجتمعات. وهي تعني محاولة تخريب ما يعتقد سكان بلد ما أنهم يعرفونه عن أنفسهم وعن العالم. وقد تركز الشبكات على آراء النخبة أو على آراء الجماهير أو عليهما معاً وقد تتضمن الممارسات الدبلوماسية والبروباجندا والحروب النفسية والتخريب السياسي والثقافي والخداع أو التشويش على الميديا المحلية والتسلل إلى شبكات الكمبيوتر وقواعد البيانات لتخريبها، ومحاولة تدعيم الجماعات المنشقة أو المعارضة في بلد ما من خلال شبكة الإنترنت. وقد يستخدم الفاعلون الذين لا يؤمنون بالدولة ويسعون للانقلاب عليها مثل جماعات الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية لكى يتجاوزوا الحدود القومية وينظموا أنفسهم باعتبارها جماعات عابرة للقارات، وأبرز مثال على ذلك تنظيم «القاعدة» سابقاً وتنظيم «داعش» حالياً، غير أن أحداث سبتمبر الإرهابية أثارت في الواقع مشكلة التكيف الفكري والاستراتيجي لأجهزة الأمن القومي الأميركية. ذلك أنه مع النموذج الجديد للتهديدات والتي تتمثل، كما أشرنا، في «الحرب المعلوماتية» و«حرب الشبكات» فقد لجأت المنظمات الإرهابية إلى إنتاج إرهاب من نوع جديد، مثل اجتياز الحاجز الفاصل بين العقل والجنون! وفي تقرير للجنرال «تيفاني» في البنتاجون، قبل 11 سبتمبر2001، قرر فيه أنه إذا كان الإرهاب يستوحي عملياته من كتاب «الجنون» فعلى مخططي الأمن الأميركي أن يرجعوا إلى نفس المرجع! ولكن تبقى العقبة الحقيقية، كما قال هذا الجنرال الأميركي، كيف ندرب المسؤولين عن الأمن القومي وفي أجهزة المخابرات على نمط التفكير الجنوني؟ هل دار بخلد أحد تحويل الطائرات المدنية المختطفة بركابها إلى أسلحة للتدمير الشامل؟ ويمكن القول إن جنون الإرهاب، كما تمثل في أحداث سبتمبر، قد أصبح نمطاً إرهابياً مستقراً بعد الممارسات الوحشية لتنظيم «داعش». وهكذا يمكن القول إن أحداث سبتمبر كانت هي إرهاصات الحروب الثقافية بين الغرب والعالم الإسلامي.