تحديات العلاقات الأميركية الأوروبية
في العلاقات الأميركية الأوروبية نجدُ حلقاتٍ من الاعتماد المتبادل في المسائل الأمنية والسياسية والاقتصادية، باتت تكشف تحديات أمام ما تعاصرهُ القارة الأوروبية من قضايا سياسية وأمنية من صعود روسيا القوية، وحراك اجتماعي مرتبط ببروز الهويات العرقية والدينية والثقافية، إضافة إلى نذر وصول «اليمين المتطرف» إلى بعض الحكومات الأوروبية، فحجم هذه التحديات خلق توجساً لدى دول أوروبا الغربية على مستقبل العلاقة الأميركية الأوروبية، خاصةً إذا غيرت الولايات المتحدة من منظورها الأمني بشكل جزئي في أوروبا كما وعد ترامب بتنفيذ منطق «أميركا أولاً»، وهذا التوجس من أوروبا الغربية يقودنا إلى التساؤل حول طابع الاعتماد المتبادل بين الطرفين وبعض المخاطر المحدقة بأوروبا.
أولاً: الأمن ضد مهيمن معادٍ، وهذا هدف تطبقهُ الولايات المتحدة في جميع قارات وأقاليم العالم، وليس في أوروبا دولة تستطيع أن تهدد أو تكون نداً للولايات المتحدة كما فعلت ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي، لكن بروز روسيا من جديد باعتبارها «منافساً نداً» أصبح أمراً خطيراً وواقعاً، وسوف تزداد قوة روسيا إذا استطاعت تشكيل تجمع يشمل الكثير من دول الاتحاد السوفييتي السابق، مع وجود حكومات يقودها اليمين المتطرف في أوروبا، إلى جانب القدرة على تحريك الأقليات والأعراق نحو تغيير الجغرافيا والحدود في أوروبا.
وهناك صورة مستقبلية أخرى بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، قد تحدث من خلال إمكانية قيام الولايات المتحدة بتحديد أمنها في أوروبا بشكل مغاير للمصالح التقليدية على حسب التطورات الجيوسياسية في أماكن أخرى من العالم، فقد كانت الولايات المتحدة في أغلب الجزء الأول من القرن العشرين منشغلة بدعم روسيا ضد اليابان وطموحها في الشرق الأقصى، لذا من الممكن حدوث دعم من الولايات المتحدة لروسيا ضد صعود الصين كدولة مهيمنة ومتحكمة في آسيا، وهو دعم يندرج تحت منع بروز قوة مهيمنة ومعادية سواء في أوروبا أو آسيا.
ثانياً: دعم حلفاء ديموقراطيين ليبراليين، مما لا شك فيه أن للولايات المتحدة مصلحة مهمة في دعم وتوسيع مجموعة البلدان ذات النظم السياسة الديموقراطية واقتصاديات السوق الحرة، والتي تعتبر محدِّداً رئيساً للسياسة الأميركية تجاه أوروبا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان الدعم الأميركي واضحاً لعمليات التحول في حقبة ما بعد الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية والاتحاد السوفييتي سابقاً، وينظر إلى الوجود العسكري الأميركي كضمان للأمن والاستقرار في أوروبا، والذي يضيف قدرة للولايات المتحدة أيضاً على حشد القوة في مناطق أخرى، لاسيما أفريقيا والخليج العربي والشرق الأوسط. إلى جانب ذلك، هناك مصالح أميركية اقتصادية مع أوروبا الغربية مع تزايد أهمية أوروبا الوسطى والشرقية، خاصة أن الولايات المتحدة تشهد عجزاً تجارياً ضخماً مع الصين واليابان بينما التجارة مع أوروبا أكثر توازناً.
ثالثاً: نزاعات ومخاطر في أوروبا: المخاطر كثيرة، فربما تكون أوروبا الغربية معنية بحدوث نزاع بين اليونان وتركيا بشأن مشكلات إقليمية في بحر إيجة وقبرص وعلى مشكلات الأقليات في منطقة تراقيا «وهو إقليم مقسم سياسياً بين بلغاريا وتركيا واليونان منذ عام 1923»، ناهيك بأن أوروبا الغربية بليبراليتها تعتبر أكثر تأثراً بالاضطرابات التي حدثت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط خاصة بعد «الربيع العربي» من خلال اللاجئين وتصدير الإرهاب إلى المدن الأوروبية، وربما تلك الحوادث في طريقها إلى تغير الكثير من قيم الحرية والليبرالية في أوروبا الغربية.
وإلى أوروبا الوسطى والشرقية تكمن المخاطر والتحديات الكبيرة، فحتى البيئة مهددة بكوارث نووية، فبلغاريا ولتوانيا وجمهورية تشيكيا والمجر وسلوفاكيا تستخدم منشآت الطاقة النووية من إنتاج سوفييتي، حيث يرى بعض الخبراء بأن تلك المنشآت ليست حصينة بالقدر الكافي، وعند الوقوف على وضع الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي نراها أقل استقراراً عن غيرها في أوروبا، ومثلما حدث في قضية القرم بين روسيا وأوكرانيا، فالعديد من الحدود الدولية محل نزاع، كما أن تواجد أقلية روسية وأقليات أخرى في أغلب البلدان يُشكل بؤراً للنزاع، وعلى سبيل المثال تُشكل روسيا تهديداً عسكرياً كبيراً لبلدان البلطيق، فهي تقع مباشرة على حدود «إستونيا» و«لاتفيا» ولها خلافات مع البلدين على الأراضي وحقوق ذوي العرق الروسي، بينما تقع روسيا البيضاء ومنطقة «كالينينجراد» الروسية على الحدود مع ليتوانيا، وأي اضطراب أو تغير في وضع كالينينجراد أو روسيا البيضاء يمكن أن يتحول إلى نزاع مع ليتوانيا.
أختم هنا برؤية ضبابية حول أهم تحديات أوروبا، فليس من المنطق التسليم بأن أوروبا تعيش نظام إقليمي أشبه بالحرب الباردة يقوم على وجود روسيا قوية أمام أوروبا الغربية، بل مخاوف أوروبا الغربية تكمن في مخاطر عديدة من روسيا القوية والطموحة لمجدها السوفييتي، ومسألة بروز الهويات والأقليات الروسية والمسلمة والمجرية والاسكتلندية وغيرها الكثير، إضافة إلى الاعتماد الكبير على الولايات المتحدة كضامن للأمن كما حدث في أزمة يوغسلافيا بعد انهيار الشيوعية، علاوة على ذلك فهناك بروز لموجات من اليمين الوطني المتطرف في أوروبا الذي يرى في «بوتين-الرئيس الروسي» مثالاً للديموقراطية المدارة والمتسلطة، وفي الوقت نفسه لا يرغب في استمرار تمدد الاتحاد الأوروبي بديموقراطيتهِ الليبرالية، ومنهم من يهدد بالانسحاب أصلاً، فاليمين يقوض العولمة ويعلو من ثقافتهِ وعرقهِ ليس ضد المسلمين، بل مقابل أعراق وثقافات أوروبية أخرى. نخلص إلى أن أوروبا رغم توافر القوة الصناعية والمعرفية والعسكرية فيها، إلا أنها ما زالت كالشرق الأوسط في حاجة إلى الولايات المتحدة في تحقيق الاستقرار والأمن، ولكن هل الولايات المتحدة تستطيع كبح الحراك الاجتماعي في القارة الأوروبية من بروز الهويات العرقية والدينية مع زحف اليمين المتطرف إلى السلطة الذي يخدم صعود القوة الروسية؟