في أواخر الثمانينيات جاءت صديقة لي من زمبابوي تدعى «ليسلي جولد فاسير»، وقبل بضع سنوات، بدأت بحوثها الهادفة إلى تقييم المشهد السياسي في أميركا. وقالت لي بعد اطلاعها على الأوضاع: «أنتم ـ الأميركيين ـ تلعبون ببلدكم وكأنه كرة قدم، لكنه ليس كذلك، بل هو أشبه ببيضة فابيرج المرصعة بالمجوهرات، والتي لا يمكن كسرها». ورحت أتمعّن في ملاحظة «ليسلي» خلال الأسابيع القليلة الماضية، لأننا رأينا خلال العقود الماضية الناس، وهم يعملون عن سبق إصرار على تحطيم مؤسساتنا وإزالة المعالم التي تقوم عليها ثقتنا، وهي العماد الأساسي للديمقراطية الأميركية. ولقد فعلوا ذلك بناءً على الافتراض الظاهري بأن النظام الأميركي يشبه بالفعل كرة قدم يمكننا أن نتقاذفها دون توقف من أجل الفوز بالمزيد من الأموال والمناصب السياسية، وكانت تعود إلينا في كل مرة لنتقاذفها مجدداً. ولا ندري بالضبط أين تكمن نقطة الانهيار، لكني أعتقد أن السنوات الثماني الماضية من عمر سياستنا، والتي بلغت ذروتها خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، قد دفعت بأميركا إلى الحافة. ورغم أن أميركا تشبه بيضة فابيرج بالفعل، لا كرة قدم، فقد بات بوسعنا كسرها بسبب سلوكياتنا الخاطئة، ويمكننا أيضاً أن نقوّض الأسس التي تقوم عليها مؤسساتنا العتيدة التي كانت ذات مرة موضعاً لحسد العالم أجمع. وأقول باختصار إننا إذا لم نتراجع عن هذا الجنون الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من السياسات الأميركية، وإذا كنا سنعيش ثماني سنوات أخرى كالتي عشناها من قبل، فسوف ندمر هذا الوطن. لقد سبق لي أن عشت في خضم الحرب الأهلية التي شهدها لبنان. ورأيت هناك ما الذي يحدث عندما تتعطل آلة الثقة التي تربط بين الناس. ووطننا يعود الآن إلى الوراء بسرعة وبنفس الطريقة، وحالما تتفكك روابط الثقة بين الناس، فسوف يكون من الصعب إعادة بنائها. لقد أصبحت العلاقات بيننا كالعلاقات بين السنة والشيعة، ولم نعد نشكل أحزاباً متنافسة، بل قبائل متناحرة. وأصبح سياسيو الحزب الجمهوري يتكلمون على طريقة رؤساء القبائل المتصارعة في الشرق الأوسط. وإذا لم نستعد نفوذنا، فسوف لن نتمكن من فعل أي شيء، وهذا بالضبط هو الموقف الذي استغله «حزب الله» الشيعي للسيطرة على لبنان. فما الذي تسبب بكل هذا الغضب الذي عزز من قوة ترامب؟ أعتقد أن الأمر لا يتعلق بالتجارة أو الفجوة في المداخيل بين الفقراء والأغنياء، بل بالواقع الثقافي الذي نعيشه والخالي من المشاعر الوطنية. وعندما أصبحت أميركا بلداً يتألف من «أقلية عددها كبير» بسبب الهجرة، فقد شكل ذلك تهديداً للحس الاجتماعي لشريحة واسعة من البيض المنتمين للطبقة الوسطى. وهناك أيضاً الحقيقة التي تفيد بأننا أصبحنا الآن نعيش وسط الزوبعة الهائلة للتغير التكنولوجي، والتي تهدد مستقبل تلك الشريحة، وتدفع عدداً كبيراً من الناس للشعور بالتهميش. كما أن شعار تمكين المرأة الذي رفعته هيلاري كلينتون يهدد مستقبل فئة واسعة من البيض ذوي المستوى التعليمي المتوسط والمنخفض. أما ترامب، فقدّم نفسه على أنه «الرجل القوي»، ووعد ببناء «الجدران القادرة على احتواء كل هذه التغيرات». وخلال السنوات الأخيرة، أصبحت النشاطات التي تهدف إلى استثارة غضب الناس وإشاعة الفرقة وانعدام الثقة بين أبناء المجتمع الأميركي ورفع الغطاء القانوني عن مؤسساتنا السياسية القائمة، كلها من الأعمال الطيبة التي تندرج في إطار السياسات الجيدة. وهكذا، فقد تركزت جهود مثيري الخوف والغضب على نزع الثقة بالآخرين، كما يفعل إعلاميو تلفزيون وراديو «فوكس نيوز»، ومن أشهرهم «راش ليمبو» و«ساره بالين»، وقد أصبحوا أغنياء بسبب هذا النشاط الخبيث. وها أنا أقولها بكل وضوح، لقد أصبح العمل على إثارة الخوف لدى الناس صناعة نامية ومزدهرة. وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دورها في هذا المجال بعد أن أصبحت المصدر الأول للخبر بالنسبة لعدد كبير من الناس، فهي تعمل على تضخيم عنصر الخوف ونشره على نطاق أوسع. وفي أسوأ ممارساتها ووظائفها، فهي تعمل على نشر نظرية المؤامرة وتتحدث عن عصر «ما بعد الثقة» بالسياسة، وهي التي أثارت لغطاً وضجيجاً وهستيريا لا نظير لها ضد هيلاري على خلفية رسائل البريد الإلكتروني المختفية، كما أن الحزب الجمهوري الذي أضعفته قدرة أعضائه الأثرياء على دفع الأموال الطائلة للوصول إلى الحكم باستخدام الإنترنت، تخلى عن نهجه الأخلاقي، وركب موجة زرع الشقاق وإثارة الخوف في أوساط المجتمع. وكلها من العوامل التي تهدد مستقبلنا. توماس فريدمان محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»