من الحقائق الغريبة والمثيرة في عالم الطب - والمكتشفة حديثاً نسبياً- هي أن عدد الميكروبات التي تقطن الأجزاء والأماكن المختلفة من الجسم البشري، يبلغ عشرة أضعاف عدد الخلايا البشرية نفسها، بمعنى أنه لكل مليار من الخلايا البشرية الموجودة في الجسم، هناك عشرة مليارات من الميكروبات، وبما أن الجسم البشري مكون من عشرات المليارات من الخلايا، يُقدر حينها أنه يحمل بين طياته تريليونات الميكروبات. ولذا، يمكن النظر إلى مجمل الخلايا التي نحملها معنا ذهاباً وإياباً طوال النهار، على أنها 10 في المئة فقط مكون من خلايا بشرية، والباقي أو 90 في المئة، هي خلايا لكائنات حية أخرى. وبخلاف التفوق العددي لهذا «المجتمع» الميكروبي، والذي يتراوح وزنه في بعض التقديرات ما بين 200 إلى 1400 جرام، ينظر البعض إلى مليارات الميكروبات تلك، على أنها عضو بشري جديد، يؤثر في العمليات الحيوية والفسيولوجية، داخل المنظومة الكاملة للجسم البشري، مثله في ذلك مثل الأعضاء الأخرى، كالقلب، أو الرئة، أو الكليتين، ويلعب أيضاً دوراً مهماً في الصحة والمرض. فعلى سبيل المثال: تتزايد الشكوك حالياً، في وجود علاقة وثيقة بين هذا المجتمع الميكروبي، والذي يطلق عليه مصطلح الميكروبيوم (Microbiome)، وبين طائفة متنوعة ومتعددة من الأمراض والعلل، تندرج غالبيتها تحت أمراض المناعة الذاتية، مثل داء السكري، وروماتويد المفاصل، ومرض ضعف ووهن العضلات، والتصلب المتعدد، وآلام العضلات المزمنة، وربما حتى بعض أنواع الأمراض السرطانية، ومن بين هذه الأمراض، يحتل السكري أهمية خاصة، وبالتحديد الكيفية التي تؤدي بها السمنة إلى الإصابة بالسكري، ودور ميكروبات الأمعاء في تفعيل هذا الميكانيزيم ذي العواقب الوخيمة. وعلى ما يبدو أن دور بكتيريا الأمعاء تلك، لا يقتصر فقط على احتمالات الإصابة ببعض الأمراض، وإنما أيضاً بمدى فعالية الأدوية والعقاقير الطبية التي تستخدم لعلاج الأمراض السرطانية، أو هذا على الأقل ما تشير إليه نتائج دراسة أجراها علماء جامعة تكساس بالولايات المتحدة، وعرضت نتائجها خلال فعاليات المؤتمر السنوي للمعهد القومي لأبحاث السرطان، والذي عقد خلال الأسبوع الجاري بمدينة ليفربول البريطانية. في هذه الدراسة، قام علماء الجامعة بفحص المحتوى الميكروبي لأمعاء ثلاثة وعشرين مريضاً أصيبوا بالسرطان، ونجحت الأدوية والعقاقير المستخدمة لعلاجهم في منحهم الشفاء الكامل. وفي نفس الوقت، تم فحص المحتوى الميكروبي لأمعاء أحد عشر شخصاً، أصيبوا أيضاً بالسرطان، ولكن فشلت الأدوية والعقاقير الطبية المستخدمة لعلاجهم في إنقاذ حياتهم. وبمقارنة المحتويين البكتيريين لأمعاء المجموعتين، وجد العلماء فارقاً هائلاً في نوعية وعدد البكتيريا، بشكل وصفوه على أنه درجة اختلاف مشابهة لدرجة الاختلاف بين الليل والنهار. وفسر العلماء هذه النتيجة على أنها ربما تكون نتيجة تأثير بكتيريا الأمعاء على المكونات المختلفة لجهاز المناعة، من حيث النشاط والفعالية، وهو ما يمكن أن يوظف في أسلوب علاج الأمراض السرطانية المعروف بالعلاج المناعي (Immunotherapy). حيث أصبحت العلاقة بين جهاز المناعة والأمراض السرطانية، تحظى باهتمام متزايد في عالم الأبحاث الطبية الهادفة لفهم طبيعة هذه المجموعة من الأمراض، وتطوير علاج قادر على شفاء المصابين بها، ففي الوقت الذي تؤثر فيه الأمراض السرطانية على قدرة جهاز المناعة على القيام بوظيفته الأساسية في الدفاع عن الجسم، اكتشف العلماء أيضاً أن من الوظائف الأساسية لجهاز المناعة، البحث والتعرف على الخلايا السرطانية في الجسم، والقضاء عليها قبل أن تنتشر. هذه الوظيفة التي تعرف بالمسح المناعي السرطاني، يأمل العلماء في توظيفها بشكل أكثر فعالية، من خلال العلاج المناعي، والذي يعتمد في أساسه على تحفيز وتوظيف جهاز المناعة في مكافحة الخلايا السرطانية. وإذا ما وظف زيادة فهمنا وإدراكنا لدور بكتيريا الأمعاء على فعالية وكفاءة جهاز المناعة لتحقيق هذا الهدف، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تستغل فيها هذه الكائنات المجهرية التي تقطن أمعاءنا جميعاً لأغراض طبية، حيث بدأ بالفعل بعض الأطباء في استخدام مزارع بكتيرية- منقولة من أشخاص آخرين- لعلاج بعض حالات الالتهابات والنزلات المعوية الشديدة، التي تعقب أحياناً استخدام المضادات الحيوية، وذلك من خلال إعادة (تسكين) الميكروبات المفيدة التي قضت عليها المضادات الحيوية من الأساس. هذه الفكرة تسعى لإعادة التوازن بين أنواع الميكروبات داخل الأمعاء، بشكل يمكن الجسم من الاستفادة منها، ويجنبه الضرر الذي قد يحدث إذا ما اختل هذا التوازن، وطغت أنواع من البكتيريا بعضها على بعض. أما فكرة استغلال أنواع من بكتيريا الأمعاء في علاج الأمراض السرطانية من خلال تأثيرها على جهاز المناعة، فربما تصبح حجر الأساس في علاج طائفة من الأمراض تحتل حالياً المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات بين أفراد الجنس البشري.