من مقاصد الحياة الإنسانية المستدامة التعايش السلمي، ويعرف دولياً أو عالمياً بالسلام والسلم العالمي، وهو ما لا يتحقق إلا بما حث عليه ربنا من بعد الخضوع لعبادته «لتعارفوا»، «لتصالحوا»، «لتعاونوا»، «لتحالفوا»، لتوادوا»، «لتشاركوا» «لتحابُّوا».. إلخ. هذه هي خلاصة حياة البشر في كونهم أناساً يدبّون على الأرض، فـ«العباد إخوة» و«الخلق عيال الله»، و«الدين السلام» والرسول، صلى الله عليه وسلم، ناشر الوئام في العالمين. أين البشر بمختلف أنواعهم وأجناسهم وألوانهم وأعراقهم وأديانهم وطوائفهم وقبائلهم من هذا الإطار العام الذي يشمل الكون الفسيح ويسعه؟! فلمَ لا تسع البعض هذه المساحة الشاسعة من سبل السلام، وقد سطرها «الصنعاني» منذ القرون الأولى، وصاحب «الموافقات» الشاطبي في عز الأندلس وغصنها الرطيب؟! خرجت أجزاء من البشرية على طوق النجاة ودخلت في مرحلة غيرت بعض أطوارها فدخلت حرباً مستعرة مع نفسها حتى انتقل شرارها إلى مَن حولها من الأقربين قبل الأعداء المفترضين. منذ قرابة القرنين الماضيين صحا العالم من نومه أو من غفلته أو سهاده أو سرحانه فجأة، فإذا به منقسم على نفسه في ثلاثة عوالم من صنع يديه، وأكثر عمليات الهدم خراباً في قوله تعالى: (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين..). عالم أول وليس أوحد وإن كان ممثلاً برأسه أميركا وحلفائها ليس من العسكر ثانية فحسب، وإنما أيضاً من المساهمين للحفاظ على المراتب العليا أو المتقدمة في سلم التطور البشري الخلاق، والمتهافتين على وتر المصالح المتبادلة والاشتراك فيها ومراجعتها إذا تسرب خلل إلى منظومتها من دون السماح للحرب المدمرة في الدخول إلى ساحتها خاصة بعد أن ذاقت ويلات وثبور الحربين العالميتين وفقدت من البشر الملايين لأسباب تافهة لم تكن تستحق هذا الدمار وحرق كل معنى للمحبة والإنسانية. وهكذا استمر العالم الأول بالعوالم الأخرى من حوله نحو المضي في خطاه أو الجريان في فلكه، وعلى رأسها اليابان ومن سار في نهجها في الجانب الآسيوي ككوريا الجنوبية وهونج كونج وتايوان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند، وأخرى تتنافس للحاق بها وتنأى بنفسها عن خوض الحروب التي تهد من صحتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشيء الكثير. وبقي من بعد هذين العالمين المتقدمين عالم ثالث يجر من خلفه أذيال الفشل والخيبة وقلة الحيلة والضرب على الخدود والندب على الحظوظ، وهو الخارج من تحت مظلة الدول المستعمرة، وأعلنت بعض دوله استقلالها الوطني إلا أنها لم تعمر من بعد استعمارها شيئاً يدفعها إلى مصاف الدول المتقدمة الأولى منها والثانية، وقد أطلق البعض على جزء من دول هذا العالم الثالث وصف الدول الفاشلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، والحبل في ذلك على الجرار، حتى فاجأ «الربيع» الشرق الأوسط وهو جزء من هذا العالم الثالثي. ولم يكن أحد واعياً في بدايته ولا ناصحاً سابقاً لأحداث الزمان كما تفعل مراكز الدراسات المستقبلية، حتى وقَعَ وقْع هذا «الربيع» الثقيل على رؤوس الدول المتأثرة به سلباً وما زال، فكان من أصعب نتائجه ظهور حركات التطرف وجماعات العنف والإرهاب لتساهم في تحويل بعض أجزاء العالم الثالث إلى عالم رابع ليس هناك للعوالم الثلاثة الأخرى وقت للالتفاف إليه من ساعة النشأة في 2011 إلى هذا الزمن الجرار لفلول «داعش» المغبرة وحركات الإسلام السياسي التي أنزلت من درجات العالم إلى القاع بمزيد من قعر الفقر والبطالة والجهالة وغيرها من آفات العصور السابقة واللاحقة. ولقد فقدت العوالم الأربعة حلاوة التعايش والسلم والأمن والأمان كلاً حسب ما ناله من نصيب تفجير وقطع رقبة بدل فكها، وسرقة وطن وكل مكتسباته وشراء ولاءات دول وهمية في الاضطلاع بالقيام بأي دور حضاري وراحت رايات «الجهاد» المزيف ترفع ونداءات عودة «الخلافة» الفاقدة للرشد تعلن عن مزيد من الإرهاب والإرعاب لأهل الإسلام أولاً دون بقية الشعوب حتى يبقى هذا الإسلام الجريح لقمة سهلة بيد الشامتين في صلاحيته للعطاء المستمر! ولم يجن المسلمون من وراء ذلك إلا ما هو أمرّ من العلقم وأسم من السم ذاته في مفعوله المدمر. فهل الطيش والفوضى غير الخلاّقة إلا لما هو أفظع وألْعن من أختها في المصائب والفتن، وها هو العالم المتقدم الأول والثاني والثالث والرابع كذلك يهب من جديد في تحالف دولي وآخر إسلامي في هبّة رجل واحد لنزع التعايش المرغوب وبإلحاح من الطائشين المتدثرين بلبوس الدين الإسلامي، والدين منهم بريء. جاء الوقت ثانية الآنية لإعادة أسلحة الإعمار الشامل إلى أهلها بعد انتشار غبار أسلحة الدمار الشامل في كل مكان بصورة أو بأخرى، وأخطرها «الأيديولوجيا الشمولية» التي لا ترى إلا ما ترى، فتحطم قواعد الحضارة الإنسانية وتخلعها من جذورها بدعاوى خادعة وكاذبة حتى وإن لفت بدعاوى دينية. فإحياء الموتى وأعداء الحياة المسالمة في البشرية جمعاء لا كرامة لهم ولا وزن وإلا أصبح العالم الرابع المدمر هو المتحكم في مصير العوالم الثلاثة الأخرى وكأنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى في انتزاع أعز ما يعيد الإنسانية إلى مكانها الصحيح في سلم التعايش بعد أن يطرد أصحاب الأفكار الطائشة من أوكارهم.