ما الذي يمنع ثقافة ما من استيعاب العناصر الثقافية الوافدة أو التبادل مع ثقافات أخرى، وخاصة الثقافة الشعبية، على أساس تنمية الطرفين؟ أتصور أن السبب هو نفوذ فئات مسيطرة ذات مصالح في العمل الثقافي.. أو في النهاية سوء فهم شعبية الثقافة، والتلاعب حتى بمفهوم «ثقافة الأمة» أو «الثقافة الوطنية»، وفق نظرية «الثقافة الأفريقية».. ما دمنا «كلنا أفريقيين»، وفق ما ناقشناه من قبل مع الشاعرة «تسيتسي دانجاريمبا»، وسخطها على الأوروبيين المستوطنين الذين عزلوا الأفارقة من قبل ثم يأتون الآن ليحدثونا عن «ثقافتنا الأفريقية»! دون مسؤولية عن حالة الاغتراب التي وجدت أو الإقصاء الطبقي الذي تم، أشعر أننا نفعل ذلك كثيراً في «المجال العام» العربي، حيث تنفرد فئة قليلة بتخطيط الثقافة كما يروق لها، في حوار مباشر وقاصر على القيم الشمالية، أو قل الغربية والرأسمالية تحديداً، ولا نرى أثراً لمعرفة أو لتحديد الموقف أو التراضي مع جوانب من الثقافة الشعبية. لا تبدو لهؤلاء ذات مميزة في مسارحهم ولجانهم العليا، وخطط النشر والإعلام.. إلخ، ناهيك عن نشر الثقافة المحلية. المثقفون «الأعلون» منا لم يهتموا مثلاً بما يجري في الموالد الشعبية، ولا من قبل الفرق الصوفية الشعبية، ولا ما تحتويه مكتبات قديمة معروفة في أحياء المدن من ثقافة لم تحدد طبيعتها، بل ولا زوايا الصلاة حبيسة الحارات والمعممين الذين يحملون أفكاراً باتت شعبية نتيجة سطوة الخرافة والتواكل. بيد أن الشعوب تحاول الإفلات من هذا الحصار لثقافتها بوسائل أخرى، وقد لفتني مرة حديث مع فهرس الثقافة المصرية الشاعر «شعبان يوسف»، أحد أكبر العارفين بمرافئ الكتاب العربي، فيما يعرف على الأقل بـ«سور الأزبكية». كما وقع في يدي مؤخراً كتيب آخر كنت اقتنيته منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي بعنوان «سوق أونيتشا الأدبي»‏?،?Onitsha? ?Market? ?Literature? ? تحرير ?صديق ?نيجيري ?هو ?الأستاذ ?«إيمانويل ?أوبيشينا» (?وقد طبع ?في ?إبادان ?ونيروبي ?ولندن ?عام ?1972)?. الصديق «شعبان» حدثني كثيراً عن «سور الأزبكية» الذي عاش عدة قرون، لكن أصحابه يذكرونه من أيام «الخديوي إسماعيل» وحديقة الأزبكية، وذهب بعضهم إلى عصر المماليك، وشهدت كتابات التصريح رسمياً له من أيام حكومة «النحاس باشا» وقادة ثورة يوليو 1952. والأهم هنا في موضوعنا أن «السور» ليس خاصاً بالثقافة الشعبية، بل يمكنني القول إن لشعبنة الثقافة، بمستوياتها المختلفة، من كتب الأساطين إلى الأدبيات الأجنبية، إلى الكتاب الذي طبع رخيصاً لكن تاجر فيه المتاجرون، دوراً تنموياً. أما عن «سوق أونيتشا الثقافي»، فقد كتب صاحب الكتاب ما أدهشني بحق، واستحق جهداً لعرضه لا يتوفر لي هنا، ففي 182 صفحة مطبوعة، عرض صاحبنا تاريخية السوق مع مدينة «أونيتشا» بشرقي جنوب نيجيريا، وعلى نهر النيجر قرب مصبه.. لكنها أيضاً القريبة من «بنين» أصل حضارة «بنين» الشهيرة بأقنعتها، وتحركات ملوكها (الأوبا)، وجاذبيتها لأبناء «الأيبو»، وكذلك «الهوسا» و«الفولا» من الشماليين الذين يأتون إلى الجنوب وجلاً. شعبية السوق هنا إنما تأتي من ألفة المعلمين بالمدارس الأولية، بل وأبنائهم، وموظفي المدينة بالسوق، والعائدين من الحروب في الأربعينيات، وهم الذين يؤلفون الكتيبات الصغيرة التي يمتلئ بها السوق، ملخصين الحكايات الشعبية والتفسيرات الدينية، وقصص الذكريات عن الهند وبورما.. بل والكتب العالمية الكلاسيكية! ولم يقصر المؤلف، فقد قدّم ثلاثين نصاً من أنواع التأليف السائد في «أونيتشا»، وخاصة مما يراه غالباً عن الحب والفساد، وكذلك سيّر بعض الزعماء الأفارقة والمحليين. وفي حيوية بالغة للمدينة وأسواقها التي تنوعت، لجاذبية ما يجري فيها من فنون شعبية، أصبحت -مثل «سور الأزبكية»- قِبلة لعدد من كبار كتاب نيجيريا، مثل «أتشيبي» و«سوينكا» وغيرهما. ومثل «سور الأزبكية»، ثمة سلاطين قدامى لتسويق آلاف النسخ من كتاب أبناء المنطقة، مثل «أوليسا» وغيره، وأصبحت المدينة سوقاً للورق والملابس القديمة الأنيقة، ومن ثم مجالاً حيوياً للتجارة العابرة من غانا والكاميرون والأقاليم المجاورة. ورغم أحداث «بيافرا» الدامية، و«أحداث دلتا النيجر» الأكثر دموية في السنوات الأخيرة، فقد أثر معنى وجود الثقافة على المستوى الشعبي، مثل حالة «أونيتشا»، وهي في قلب هذه الأحداث، على دورها الثقافي الحقيقي، لكن ذلك أعفاها من أي أثر لذلك الاضطراب (ليس صدفة أن منطقة الأزبكية والأزهر لم تعرف مثل ذلك أيضاً). لقد أصبحت «أونيتشا» سوقاً لظاهرة جديدة خطيرة، وهي سوق الأفلام السينمائية المسروقة أو الأفلام القصيرة التي ينتجها شباب المنطقة بالمئات ويسوّقونها هناك، ?وتتحول ?حصيلة ?ذلك ?رأسمالاً ?لإنتاج ?ما ?تفاخر ?به ?نيجيريا ?الآن ?كبلد منتج للسينما! أقول أخيراً إن تحرير مفهوم الثقافة الشعبية، وشعبنتها بالفعل، بوسائل متنوعة وليس مجرد المسرح والميكرفون، سيجعل الثقافة أداة أمان عقلي، وخالقة لمناطق الاستقرار، لأن الأمية الثقافية مع سيادة نخبة شبه طبقية على المجال العام تجعل الأمية طريق العمى الحضاري والهلاك.