هل ضمان السيطرة على المجال الثقافي هي نفسها السيطرة الثقافية على المجال العام، في المجتمع والدولة؟ هكذا بدت المسألة مبسطة حين ساد القول بأن الثقافة تمثل البنية العليا لبنية تحتية، جيدة الصنع من التطور الاقتصادي الاجتماعي، وخاصة الرأسمالي. ولكن تطور مجتمعات ما سمي بالعالم الثالث، فرض مفهوماً ثنائياً آخر لمعنى الثقافة والمجال العام نفسه. فالثقافة أصبحت هي الشعبية أو العامية وحتى «البدائية» عند بعض علماء الثقافة. أي ثقافة كتلة من البشر تحررت سياسياً بقدر ما، من عالم الاستعمار المباشر، وتعيش بقدر من الحرية. أما المجال العام وثقافته فقد تحددت هويته عبر الطبقة السائدة بالضرورة التي أصبحت تملك إدارة التعليم والفنون والإعلام، ومختلف أدوات التعبير. وأصبحنا نتحدث عن الثنائية في المجتمع بين مثقفين وشعبيين، أو أميين أو تقليديين.. الخ. لأن القدرة على عزل فئة لأخرى أصبحت واضحة، مع مراكز القوى. وقد عبرت كاتبة، وشاعرة إفريقية من زيمبابوي هي «تسيتسي وانجاريمبا» في كتيب مهم لها باسم «الفنون والثقافة الشعبية في نسيج أو سياق المجال العام في أفريقيا»، عن استيائها من هذا التحليل الذي اعتبرت أنه قد بدأ بالتحليل الماركسي، ولكن من استفادوا منه، وما زالوا، هم النيوليبراليون والمستبدون على السواء.. رافضة في خطابها الافتتاحي لمؤتمر ثقافي كبير بداكار أن يقبل الأفارقة هذا التقسيم على يد المحللين إياهم، ممن أطلقوا بعد تحرير زيمبابوي، وجنوب أفريقيا خاصة هذه الثنائية مع مقولة «أنا إفريقي».... وأظنها كانت تشير هنا إلى ما أطلقه الرئيس «ثابو مبيكي» عقب التحول الديمقراطي لحين قال: «إننا وقد خلصنا من الاستعمار (الاستيطاني) فكلنا إفريقيون»، وهنا أعلنت الأستاذة «تسيتسي» أنها ترفض من أعلنوا إبعاد الأفارقة عن المجال العام، ليشاركوا صفة «الإفريقية»، لكي يظلوا على رأس المجتمع والمجال العام، وحتى إدارة الثقافة الشعبية. وفي تقديرها أنه لا ينفع إلا إعلان أن من أقصانا كمواطنين إفريقيين يوماً ما، لا يجدي معه إلا أن نقصيه. وتتهم الشاعرة الإفريقية -بهذا الحماس الأدبي- هؤلاء القابلين بصيغة إقصاء الجماهير الأولى والثانية، بأنهم الليبراليون الجدد، وهي تقصد بالطبع الطبقة الجديدة في جنوب أفريقيا، والطبقة المستبدة في زيمبابوي، وهم القائمون على الإقصاء الفعلي لجماهير الشعب الإفريقي الذي أصبح صاحب الحق في إعلان إفريقيته الحقيقية. وقد تعددت في أنحاء القارة أشكال هذه الثنائية التي تقصي الثقافة الشعبية عن المجال العام، وتخلق هياكل ثقافية إيهامية أو إيحائية -مع التقدير لجهودها- مثل المجالس العليا والأكاديميات والجوائز والمجلات وهيئات النشر والترجمة، للسيطرة على المجال العام طبقياً، وليس لخدمة الثقافة الشعبية «إيديولوجياً»، ليقول المواطن «أفريقيا أنا»! وقد عرفت بعض الشعوب في فترة الانتفاضات الشعبية، كيف تتجاوز الجماهير كل تعبيرات المجال العام السائد، رغم قوته، لتردد ما ورثته من المجال الشعبي القديم أو الحديث. وهذا التماهي مع الرغبة في التغيير معبراً عنه بالثقافة الشعبية هو الذي يبقي على الانتفاضة أو يصفيها في زاوية أخرى أحدث في المعالجة، تمظهرت قضية الثقافة والفنون الشعبية مرة أخرى بعد ما قيل عن تصفية الاستعمار، موضوعة في نسيج أو سياق مجتمع العولمة والنيوليبرالية... وجاء ذلك مرة أخرى لخدمة الطبقة المسيطرة على البنية العليا باسم «كل الإفريقيين»، بل إن ليبرالية العولمة بدت متسامحة. ولاحظنا إمكان تعبير «الجماعات الشعبية» عن نفسها ولكن بترديد ما توصله لها أدوات العولمة في الهيمنة والتفتيت على السواء. وقامت عدة مراكز ومؤسسات أحدها منتدى العالم الثالث بقيادة سمير أمين، ، و«مركز الجنوب» في جنيف لفترة بقيادة المفكر «ياش تاندون» (أوغندي) بمتابعة أساليب العولمة هذه، والتي تدعي فيها التوفيق بين الاندماج العالمي والدول الوطنية، والحداثة، ووضع الثقافة الشعبية في التعامل أو القبول بهذه المقولات، كضرورة لتخليق «ثقافة العولمة» الموحدة لكل ذلك في سلة واحدة مثل اليونسكو.. وهو ما يضع المهتمين بالثقافة الشعبية بل والأنثروبولوجيا الثقافية أمام مسؤولية القبول بتفتيت المجتمعات على رغم بيان عمق تقاليدها، ومحاسن أداء أبنائها الفنيين نتيجة تسليمهم بمدارس وظيفية قديمة، دون الانتباه لما تستدعيه أجهزة العولمة لهم من أدوات إضعاف الدولة الوطنية -حلم الاستقلاليين- بل ونفي مدارس أنثروبولوجية وسوسيولوجية حديثة، تدرس في اتجاه الدولة التنموية الديمقراطية التي تضع الثقافة الشعبية في مكانها المناسب من النسيج الاجتماعي كله، وتجعل الإفريقي قادراً على الفخر بأنه أفريقي أولاً على حد تعبير الشاعرة الإفريقية، واستبعاد الأفكار الإقصائية الأخرى، وهي الآن آليات العولمة وليست مجرد آلية تصفية الاستعمار، لأن الدائرة بدأت تلتف حول رقبة «النيوليبرالية» بما تحققه الشعوب في محاولتها لمواجهة العولمة... وإن بدت صعوباتها. ----------------- * رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية- القاهرة