هل بدأ القرن الآسيوي؟
تتمحور الفكرة الرئيسة لأحدث كتب الصحافي البريطاني جيديون راتشمان: «الشرقنة.. الحرب والسلام في القرن الآسيوي» حول فكرة «الشرقنة»، أو انتقال مركز الثقل في العالم من الغرب إلى الشرق، والمقصود بذلك انتقال أسباب القوة الاستراتيجية من القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى آسيا وخاصة الصين، منذراً من أن هيمنة الغرب على السياسة العالمية باتت تشارف نهايتها، وأن تدفق الثروة والقوة أخذ ينتقل من الغرب إلى الشرق إيذاناً ببداية عهد جديد من انعدام الاستقرار العالمي.
والشرقنة، أو التحول شرقاً، أضحى السمة المميزة لعالمنا الحالي، حيث أخذت الثروة المتزايدة للدول الآسيوية تغيّر ميزان القوى العالمي. وهو تحول بات يؤثر في حياة الناس عبر العالم بأسره، وفي مصير الدول، وفي مسألتي الحرب والسلام. ذلك أن الصين الصاعدة اليوم أخذت تتحدى الهيمنة الأميركية بشكل متزايد، وطموحات القوى الآسيوية الأخرى -مثل اليابان وكوريا الشمالية والهند وباكستان- يمكن أن تؤدي إلى زعزعة استقرار العالم بأسره. وفي هذه الأثناء، ما زال الغرب منشغلاً بالتعاطي مع آثار الأزمة المالية والاقتصادية والشعبوية السياسية، والعالم العربي غارقاً في الفوضى والاضطرابات، في وقت تتطلع فيه روسيا لاستعادة وضعها السابق كقوة عظمى.
بيد أن فكرة الأفول الأميركي وصعود الشرق ليست جديدة، وقد صدرت كتب عديدة في هذا الموضوع تدق ناقوس الخطر محذرةً من تحول مركز الجاذبية العالمي من الغرب إلى الشرق، ولكن كتاب راتشمان يتناول هذه الحقيقة الجوهرية بتركيز شديد، باحثاً تداعياتها العالمية من جنوب شرق آسيا وروسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط.
والواقع أنه منذ اندلاع الأزمة المالية، تسارع تراجع الغرب وصعود الصين، وإنْ كان كثيرون يعتقدون أن العكس هو الصحيح نظراً للحديث المستمر في بعض الأوساط حول «الصعوبات» الاقتصادية التي تعاني منها الصين. ولكن راتشمان يرفض هذه الفكرة، مبرزاً كيف أن العالم أخذ يعاد رسمه، سنة بعد أخرى، نتيجة هذا التحول في مركز القوة.
والمعقل الرئيس لمقاومة هذه الفكرة هو الولايات المتحدة التي ينكر فيها كثيرون هذا الواقع الجديد، ولكن راتشمان يُظهر كيف أن الرئيس باراك أوباما يعترف ضمنياً بهذه الحقيقة، ولكنه لا يستطيع الاعتراف بها علانية لأنه لا يوجد سياسي أميركي يجرأ على فعل ذلك، كونه خطيراً على سمعته. وفي المقابل، أخذت أوروبا، وخاصة منذ الأزمة المالية، تتصالح مع هذا الواقع الجديد تدريجياً وتعترف به، وهو أمر غير مفاجئ بالنظر إلى أن «القوى الأوروبية باتت في تراجع سريع كلاعبين سياسيين عالميين»، مثلما يقول راتشمان.
والمؤلف يعتقد أنه مع مرور الوقت ستنتزع الصين من الولايات المتحدة مكانتها باعتبارها القوة المهيمنة العالمية، وأن كل بلد سيكون مضطراً للتأقلم مع هذا الوضع الجديد. ومعلوم أن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تدهورت منذ 2010 في وقت باتت أميركا تنظر فيه إلى الصين باعتبارها تهديداً لهيمنتها العالمية، وبدأت الصين تبحث لنفسها عن دور أكبر في شرق آسيا. ويبدو أن راتشمان محق حين يبدي قلقه من احتمال أن يؤدي هذا النزاع إلى حرب كارثية لا تبقي ولا تذر، بالنظر إلى العسكرة المتزايدة في بحر الصين. وإلى ذلك، يشير راتشمان تصريحاً أو تلميحاً مبرزاً أن التحول في القوة أمر حتمي ولا مفر منه، وأنه يجدر بالجميع التعود عليه، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وعلى رغم أن الجزء الأكبر من الكتاب كُتب قبل صعود المرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي يراهن على عامل الخوف وتصوير أميركا على أنها في حالة تقهقر، إلا أنه يستشرف بعض الصعوبات الداخلية التي تواجه سعي أميركا للرد على هذه الرمال المتحركة، حيث يناقش راتشمان بواعث القلق المتزايدة في أميركا بشأن التجارة، والتخوفات من سعي الصين المتزايد للعب دور أكبر في شؤون العالم بالتوازي مع تعاظم قوتها الاقتصادية، إضافة إلى هيمنة روسيا والشرق الأوسط على أجندة السياسة الخارجية.
بيد أنه مما يؤخذ على هذا الكتاب تركيزه المفرط ربما على فكرة «الأفول الأميركي»، وهو مبعث قلق يشاطره بالفعل كثيرون في آسيا ممن يخشون أن تقوم الصين بسد الفراغ الممكن في القوة. وعلى غرار الكثيرين عبر العالم، يتساءل راتشمان عما إن كانت لدى الولايات المتحدة القوة أو الشجاعة للتعاطي مع التحديات المقبلة. غير أن التاريخ يشير إلى أنه ينبغي الحذر وعدم المبالغة في الحديث عن الصعوبات الأميركية، ومقاومة الميل إلى الانتقاص والتقليل من شأن الميزات -الخفية أحياناً- التي تمتاز بها القوة الأميركية، مثل قدرتها على التكيف مع الأوضاع الجديدة، وقدرتها على التجدد والابتكار، التي كانت وراء صعودها خلال نصف القرن الماضي. وعلاوة على ذلك، فإن هذه التخوفات بشأن التراجع الأميركي تطفو على السطح كل بضع سنين خلال مرحلة ما بعد الحرب، ولكنها كثيراً ما تمثل انعكاساً لتخوفات وهواجس دولية أكثر منها تقييمات موضوعية وواضحة للوضع الاستراتيجي الأميركي.
محمد وقيف
الكتاب: الشرقنة.. الحرب والسلام في القرن الآسيوي
المؤلف: جيديون راتشمان
الناشر: بودلي هيد
تاريخ النشر: 2016