فلسطين.. قريبة أم بعيدة؟
سهلٌ أن تمسك من الجانب السوري، على سبيل المثال، غصناً لشجرة في فلسطين، في المنطقة الحدودية، لتبدو لك الحقيقة من زاوية غير مألوفة؛ التفت الرجل إلى صاحبه قائلاً: من قال إنها بعيدة، انظر كم هي قريبة فلسطين، قرب هذا الغصن الرطيب، على خلاف ما يشيعون في وسائل الإعلام. تُرى هل حقا فلسطين قريبة، أم إنها بعيدة، وتزداد كل يوم بعداً؟ أم يخيل إلينا لأنَّا (كبُرنا ونسينا التجاعيد في نغمة الناي) كما قال شاعرها الكبير محمود درويش؟ وفي الدبكة يرج الشباب الأرض بأقدامهم على شهقة الشبابة، بينما تلوح لك من بعد، خريطة فلسطين المذهبة تتدلى، لتسأل؛ كيف استطاع هذا الشعب المركوز في الأرض حتى الروح، وعلى مدى سبعين سنة من العذاب، وأزيد من مئة وخمسين ألف شهيد، أن (ينقذ) اسم فلسطين من ريح الاندثار، وشكل فلسطين من كهف النسيان، ويحفظهما في الشمس؟ لكن هل يعوّض هذا عن المشي في أرض فلسطين، ليتعفر حذاؤك بغبارها، وتتسخ ياقة قميصك بعرق صيفها، فيما أزيز البيادر يمعن في الإطناب وأنت لا ضجر؟ لا يُعتقد ذلك؛ ففي الفنون مواساة، قد تحفظ من التاريخ جانباً، أما الأرض فهي شق التطابق الغائب. أنت من دون أرض تقف عليها كيانٌ ناقص، يجعلك لا ترى أرضاً في الدنيا تحملك، لثقل في رأسك يذهب ويأتي، ولرجفة في الروح ملازمة لا تفارق، ودمعة في العين تكابر.
دائماً ما تجد في أرضك شيئاً من رائحة الجنة. فلسطين وهي قضية العرب المركزية -كما يفترض - تزداد يوماً بعد يوم ابتعاداً؛ في الصحافة المكتوبة، حيث غادرت مكانها في الصفحات الأولى، لتدفن في الصفحات الداخلية؛ فهي لا يكفي أنها تخضع لمحاولات قذفها إلى خارج التاريخ والحضارة، بل تتعرض لمحاولات إسقاطها من صفحات الجرائد والمجلات، وإخراجها عنوة من شاشات التلفزة، وطمسها من (كراريس) الأطفال، وجعلها للكبار، رديفاً للخرافات في كتب تفسير الأحلام. لم يبق في العالم كله اليوم، أرض محتلة سوى فلسطين. ويبدو العالم مرتاحاً جداً لهذا «الإنجاز» الرائع، يتوج به ألفيته الثالثة! ورغم إنهاض تاريخ يستند إلى الأسطورة، على تاريخ فلسطين الشعبي، الذي كتبه الفلاحون بمداد عيونهم، تبقى عملية السرقة هذه مبهرة في وضح العرب والنهار؛ خطفوا الثوب المطرز بالصبر، وهرسوا حبة الزيتون على غصون القلب، وطبق المسخن الشهي، حرموا الجدات فرح تقديمه، وكذا كان مصير البرتقال واللوز والتين والخروب، وليس انتهاء بالشموخ والمجد في سالف العصر وحاضره، ورغم ذلك كله، ظلت فلسطين تتجلى يوما بعد يوم وتتجدد، لتبقى حاضرة في النظر والقلب، لتبقى رغم الحصار، نجمة في السماء، عروساً في الساحة. قالها «سنرقص الساحة ونزوج الليلك». اليوم، العالم كله يرقص مخضباً بالكراهية، وكان بالإمكان اختصار الملحمة منذ زمن بعيد. ترى هل يقبل الإسرائيليون قرار حل الدولتين في فلسطين؟، على زخم تأييده الدولي، وحديث الإسرائيليين عنه في المحافل كلها؟ كثيرون يشكون في ذلك. بالمقابل، هل يفيد حل الدولتين الشعب الفلسطيني؟ كثيرون أيضاً يشكون في ذلك رغم ما تدفع به القيادة السياسية الفلسطينية الحالية؛ هنالك انقسام مؤكد لكن البعض لا يريد الوقوف عنده والاعتراف به، يرصده المرء في الصحافة الإسرائيلية والأجنبية. فلسطينيون لديهم ما يشبه اليقين أن حل الدولة هو الأجدى للطرفين من حل الدولتين، حل الدولة الواحدة هو الذي سيجري الدفع باتجاه إقراره بعد سنوات من الآن، لكن «نغمة» كهذه تعد جديدة على أسماع الذين ركنوا إلى مقولة إن «الفلسطينيين أدرى بمصلحتهم، ونحن العرب من ورائهم مؤيدون ومساندون». ربما تكون تلك حكمة يقتضيها الواقع، ويمليها خُلق احترام تقرير مصير الشعب الفلسطيني. فليكن. إن المآلات ليست دائماً تكشفها بالضرورة البدايات.