عندما تكون الرصاصة هي الوسيلة الوحيدة للحوار وحسم الخلاف الفكري تكون «داعش» قد غرست راياتها السوداء في عيوننا وجلجلت منتصرة. الرصاصة لم تنطلق من مسدس أرعن وحسب، بل من عقل أعوج هو نتاج مناخ مُعبأ بصدأ التطرف، ظل يشحن في حملة المسدسات ونتاج التربيات «الداعشية» حقداً وكراهية ضد كل من يختلفون معه. عندما تفيض كراهيات الشحن الداعشي في مجتمعاتنا عن قدرة الأفراد المشحونين على التحمل فإنها تتحول إلى عنف ورصاص. عفن الداعشية (ومقصود بها هنا السنية والشيعية سواء بسواء) هو الذي يسيطر على عقول حملة المسدسات الباحثين عن عقول عزلاء يستعرضون بطولة تافهة تجاهها. يبدأ التجييش على مقاعد المدرسة ومن خلال مناهج التعليم التي تزرع في عقول الصغار «معالم في طريق» تقسيم البشر إلى مسلمين وكفار، معنا وضدنا. من هناك تبدأ المسيرة الداعشية «المظفرة» ومن ينكر هذا عليه أن يعود ليتأمل تلك المناهج التي تمهد الأرض للدعشنة المسلحة اللاحقة. يتفاقم التجييش مع التربية الدينية والأسلمة الهائجة التي تجتاح مجتمعاتنا عبر جحافل الدعاة النصيين والسلفيين المهجوسين بتنصيب أنفسهم قضاة على ضمائر الناس وأفكارهم ومعتقداتهم، وتصنيفهم مسلمين أم كفار أم فساق. بل إن بعضهم امتد علمه الوفير لتصنيف إيمان الكائنات الأخرى، وقد شاهدت مؤخراً فتوى تلفزيونية تتناول «سلوك» أحد أنواع الأسماك وتستنتج أن تلك السمكة المعنية فاسقة هي ونوعها بأكمله. لم يُتحفنا الشيخ المُفتي فيما إن كان علينا جلد السمكة قبل صيدها وأكلها، وهل أصلا يجوز أكل السمك الفاسق؟ تلتقط كثير من الجوامع والمنابر مع الأسف راية التجييش وتتفجر حناجر خطباء كثر بالدعاء على الكفرة والمجرمين من نصارى ويهود وشيوعيين وعلمانيين وقوميين ورافضيين وكل من هب ودب ممن لا يرضى عنهم الخطيب المُقدام. في كل جمعة وكل أسبوع يستمع ملايين المسلمين لخطباء غالبيتهم الكاسحة، تتسم بجهل فائق في التعامل مع مجتمعات حديثة ومتعددة فكرياً وسلوكياً ومذهبيا. يستل الخطيب صفحات من كتب صفراء، كان يكررها خطباء عصور الانحطاط، ويرشقها في وجوه مسلمي القرن الواحد والعشرين، فيخرجون مشطورين بين الذهول والصمت وعدم التعليق على ما سمعوه. بيد أن شريحة عريضة تتلقى ما تسمع على أنه عين الحق، وهي ذات الشريحة التي ظلت مأسورة بما تلقته على مقاعد الدرس، وما صارت تسمعه، وتتأكد منه على قنوات الدعشنة التلفزيونية التي تملأ الأثير. ما ينافس بشاعة الفعلة الجبانة باغتيال ناهض حتر تسويغها قولا وزعماً بأنه تعدى على الدين والمقدسات وتصرفاته ومقولاته جلبت عليه هذا المصير. بل ثمة تعليقات طويلة وكثيرة على الخبر ومنشورة على المواقع الإلكترونية، بما يستدعي دراسة أكاديمية متكاملة، تبرر فعلة القتل وتجد المسوغات للقاتل. هذا بالضبط هو ما أسميه «الداعشية الكامنة» وهي التي تجذرت في مجتمعاتنا خلال نصف قرن على الأقل من عصر الأسلمة والتدين السمج والمتطرف الذي عصف بنا، وشوه كل ما هو جميل فينا. الذين يزعمون بأن حتر تسبب في رد الفعل «الداعشي» يفوتهم جذر المسألة كلها، ولا يلتفتون إليه، وهو أن محاسبة «حتر» أو عدم محاسبته هي مسؤولية الدولة والقضاء، وليست متروكة لكل متوتر هنا، أو«داعشي» هناك يزعم بأن الحمية عن الدين تدفعه لقتل وذبح من شاء. لماذا لا تتحرك هذه الحمية للدفاع عن صورة الدين الإسلامي التي تشوهت في العالم بأسره، وصارت مرتبطة بالدم والقتل والسحل وقطع الرؤوس؟ لماذا لا يثور أولئك المتحمسون «لثقافة ودين الشعب الأردني والذود عنه» للدفاع عن صورة الأردن التي شوهتها الثقافات الداعشية، وحولت الأردن المدني الواعد إلى بلد لم يعد يحتمل وجود صوت مخالف فيه. لا ضرورة هنا للقول في ما إن كان المرء يختلف مع ناهض حتر فكريا وسياسيا ومواقفيا، فهذا لا وقت له. ما يجب أن يُقال أن الداعشية الكامنة فينا، وفي تربيتنا، وفي مدارسنا، وفي إعلامنا، وفي نمط تديننا، وفي جوامعنا، وفي وسط كثير من سياسينا، هي العدو الأكبر والأكثر إلحاحاً لنا جميعاً. القضاء على هذه الداعشية وأنقاض أجيالنا ومجتمعاتنا منها هي المسألة الأولى على أجندتنا. البحث عن المسوغات والتخفيف من هول الواقع لا يعني سوى إمداد هذه «الداعشية» بالمزيد من الأكسجين، لإعمال المزيد من القتل والإبادة والتدمير في روحنا الجماعية، فكراً وسلوكاً.. وأجساداً. قبل عدة أيام تابعت تعليقات داعشية «فيسبوكية» طويلة على مقطعين تلفزيونيين، الأول لمغنية عربية والثاني لحلقة ذكر صوفية. التعليقات الهجومية والتفسيقية والتكفيرية في الحالتين تقشعر لها الأرواح والأبدان. اللعنات والكراهيات والتهديدات ضد المغنية وضد حلقة الذكر الصوفي تقول شيئاً واحداً هو إن المعلقين«المجاهدين» لا ينقصهم إلا السلاح وإمكانية الوصول إلى «الهدف» لقتله والقضاء عليه. الفرق بين الداعشية الكامنة والداعشية المتوحشة المسلحة هو توفر السلاح في يد الثانية. الداعشيتان الاثنتان تعتاشان على نفس الأصول التفكيرية والتكفيرية، وتنهلان من نفس المستنقع الآسن. د.خالد الحروب* *كاتب وأكاديمي عربي