بطريقة لاشعورية وتحت أثر تقليد المركز والانبهار بثقافته يتم استعمال طرق تفكيره ومذاهبه كإطار مرجعي للحكم دون مراجعة أو نقد. وقد تتبنى ثقافة الأطراف كل ما يصدر في المركز من أحكام خاصة: ثنائيات الحس والعقل، وتعارض المثالية والواقعية، والكلاسيكية والرومانسية، وتعارض الدين والعلم، والقطيعة مع القديم! وكلها أحكام صدرت في المركز بناء على ظروفه الخاصة، ولا ينبغي أن يتم تعميمها على غيره من ثقافات الأطراف التي قد يكون فيها اتفاق شهادة الحس وشهادة العقل وشهادة الوجدان، والجمع بين المثالية والواقعية كما حاول الفارابي من قبل «الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم»، وخروج العلم من ثنايا الدين، وقيام الدين على تصورات العلم، واستنباط شريعة وضعية تجمع بين القيم الدينية العامة وهي مقاصد الشريعة التي هي في الوقت نفسه مجموع المصالح العامة، والتواصل بين القديم والجديد، المسيحية بعد اليهودية، والإسلام بعد المسيحية واليهودية معاً. وقد يفكر الهامش بمقولات المركز، ويعمم أحكامه، ويقع في خطأ الانتقال من الجزء إلى الكل دون أن يرد هذه الأحكام إلى ظروفها التي نشأت فيها ويتحرر منها ويقيم أحكامه الخاصة بناء على ظروفه الخاصة التي قد تختلف مع ظروف المركز وأحكامه وقد تتفق معها أيضاً. وتطغى ثقافة المركز إذن، نظراً للانبهار بها وتقليدها وتبنيها وإطلاقها واعتبارها الثقافة العالمية الممثلة لجميع الثقافات، والتجربة النموذجية التي تحذو حذوها كل التجارب الأخرى. تمنع إبداعات الأطراف الذاتية والتفكير المستقل، والانعكاف على الذات وممارسة قوى التنظير الطبيعية في كل عقل بشري، واستنفار الاجتهاد الكامن لدى كل الشعوب. فالغرب ليس بدعة، ولا نسجاً عبقرياً على غير منوال، ولا يتمتع بقدرة فريدة على التنظير دون غيره. بل إن قوة رفض الماضي، الكنيسة وأرسطو، هي التي دفعته إلى التوجه نحو الواقع والمجتمع اعتماداً على العقل البديهي. فأنشأ العلم التجريبي، وأقام المجتمع على العقد الاجتماعي. وليس هناك ما يمنع أية ثقافة أخرى من التحول الطبيعي من التقليد إلى الاجتهاد، اعتماداً على الجهد الإنساني، سواء على نمط المركز نفسه أو على أنماط أخرى، فتتعدد الإبداعات البشرية، ولا يتم إيقافها أو إجهاضها بتقليد نموذج واحد في إبداع المركز. وبمقدار ما يزداد التغريب في المجتمع، وتنتشر فيه القيم الغربية، والعادات الغربية وأساليب الحياة الغربية خاصة عند الصفوة التي بيدها مقاليد الأمور مع شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة، يزداد تباعد الجماهير عنها واتجاهها إلى ثقافتها، وتمسكها بتقاليدها. فالفعل يولد رد الفعل المضاد، ليس المساوي له بل ربما الأشد منه، وقد تنشأ الأصولية، بدعوى الدفاع عن الأصالة، وزعم التمسك بالهوية. وبهذه الكيفية قد يظهر تغريب في الظاهر وأصولية في الباطن، انبهار بالغرب عند الصفوة ورجوع إلى التراث عند الجماهير. فباسم الحداثة يتم التمسك بالقديم، وبدعوى اللحاق بالمستقبل يتم تأصيل الرجوع إلى الماضي والتشريع له، وباسم الانفتاح والتنوير يتم الانغلاق والإظلام. وينشق الصف الوطني إلى فريقين: فريق العلمانية وفريق الماضوية، وكل منهما قد يستبعد الآخر إن لم يُكفّره أو يُخوّنه، وكما كان الحال في الجزائر إلى حد سفك دماء النساء والأطفال والمسنين وإزهاق أرواح الأبرياء. كل فريق يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة ويستبعد الآخر. والدولة قد تؤيد مرة هذا الفريق الماضوي إذا كان الخطر قادماً من العلمانية، ناصرية شعبية مثلًا، ومرة أخرى الفريق العلماني إذا كان الخطر قادماً من الحركة الماضوية، من أجل إشعال النار بين جناحي الأمة فيضعفان معاً ويقوى القلب أو الوسط الذي قد تدعي الدولة تمثيله حماية له من التطرف. ويتحول الخصام الثقافي بين أعضاء العولمة وأنصار الهوية إلى صراع على السلطة عندما تضعف الدولة. وينهار مشروعها القومي. كل فريق يرى أنه أحق بوراثة الحكم من الفريق الآخر بمفرده، ويتحول الأمر إلى صراع على السلطة، صريح أو ضمني، قد يصـل إلى حد الاقتتال بالسلاح وتصفية المجتمع، فيكون الضحية. ويجد كل فريق أعوانه في الخارج، الغرب لأنصار الحداثة وبعض النظم لأنصار الماضوية، والوطن هو الضحية، ميدان لصراع القوى الكبرى بالمال والسلاح، وتضيع الخصوصية لمصلحة الصراعات المحلية والدولية، ويصمت الحوار الوطني، ويشق صف الوطن. فالمعركة إذن بين الخصوصية والعولمة ليست معركة بريئة حسنة النية، أكاديمية علمية، بل هي معركة تمس حياة الأوطان ومصير الشعوب. --------------- أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة