ثقافة التقاعد
كعادته أحسن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية اختيار موضوع التقاعد في دولة الإمارات كي يكون أحد العناوين ضمن محاضراته الدورية. وقد عالج المحاضر الأستاذ فرج إسماعيل رئيس «جمعية الإمارات للمتقاعدين» في محاضرته التي حملت عنوان «التقاعد بين الواقع والمأمول» الكثير من القضايا الإيجابية المرتبطة بالتقاعد في الإمارات، ومن جانب آخر حملت المحاضرة والنقاش الذي سبقها وتلتها بعض المعاناة والهموم، والتي من الواجب النظر إليها ودراستها ضمن استراتيجية حكومتنا الرشيدة الرامية لإسعاد المواطن. فكما أن الموظف المواطن يحميه القانون، ويؤمّن له كل حقوقه المادية والمعنوية، نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في القوانين المرتبطة بالتقاعد كي يهنأ المواطن بالسعادة بقية حياته، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. لقد بذل ذلك الموظف زهرة حياته، وأدى كل واجباته، بيد أنه في لحظة من حياته بحاجة إلى من يأخذ بيده ويرشده لفنون التعامل مع المرحلة القادمة من عمره، إنها حياة التقاعد، فهي إما أن تكون رصيداً إيجابياً يقضي فيه الإنسان بقية حياته مستمتعاً بالتقليل من الواجبات اليومية متفرغاً لأنشطة تجدد له معنى الحياة الإيجابية، وإما أن تكون فترة التقاعد مملة مليئة بالهموم والمشاكل الاجتماعية والنفسية، فما مربط الفرس في هذا الأمر؟ إنها ثقافة التقاعد المفقودة للأسف الشديد في الكثير من الدول العربية.
عندما كنت عميداً في جامعة الإمارات تقدم لي أحد رؤساء الأقسام الأجنبية برسالة يطلب فيها الاستقالة من عمله بانتهاء العام الدراسي، أي قبل سنة من الموعد، فسألته عن سبب الاستقالة، وهل هناك ما أزعجه في الكلية، فكان رده غريباً علينا نحن في العالم العربي، فقد قال لي بالحرف الواحد: خططت لحياتي في مرحلة التقاعد منذ عشر سنين، وآن لي أن أنفذ هذه الخطة.. وعندما حاورته في مشاريعه المستقبلية وجدت أنها تجمع بين الترفيه عن النفس والتطوع في بعض المجالات، لمَ لا وقد أمّن لنفسه دخلاً يكفيه بقية عمره! وقد ودّعني بقوله: آن لي أن أستمتع بحياتي.. هذا ما نسميه «ثقافة التقاعد»، وكي ننجح في بناء هذه الثقافة لا بد من فهم واقع التقاعد لدينا. أولاً في الإمارات أكثر من منظومة للتقاعد، فهناك لوائح للعسكريين وأخرى للمدنيين، وهناك نظام ضبابي في ما يرتبط بالقطاع الخاص. وفي تصوري نحن بحاجة إلى ردم الفجوات بين هذه اللوائح، لأن المتقاعد في نهاية الأمر مواطن في دولة الإمارات يعيش نفس التحديات.
الأمر الثاني يرتبط بطرق الحصول على التقاعد.. هناك من أتمَّ مدة عمله وطلب التقاعد بناءً على رغبته في الوقت الذي يراه مناسباً، وهناك من تقاعد دون إرادته، إما لحالته الصحية، أو لما فيه مصلحة العمل، والحالتان مختلفتان من الناحية النفسية والمالية.
وإذا كنا في بيئة العمل نشجع الإنسان على الاستمرار في العطاء بكل إخلاص، فإنا مطالبون كذلك بمساعدة الموظف في رسم خطط مستقبلية في تأمين حياته عند التقاعد، وتشمل هذه البرامج الجوانب المالية والاجتماعية والنفسية، فلا يوجد أخطر من الفراغ عند الكبر، حيث يضيع الإنسان في متاهة الوقت مما يعرضه للكثير من الأمراض الجسدية ذات المنشأ النفسي. وقد أعجبني شعار جمعية الإمارات للمتقاعدين وهو «الخبرات لا تتقاعد». نحن في دولة أمامها تحديات، وتحتاج إلى كل عنصر مواطن كي يكون لبنةً في بناء هذا المجتمع، فهل بالإمكان إيجاد مشروع وطني لاستثمار الكفاءات المتقاعدة، وبالذات المتميزون منهم، بإعادة تنسيبهم إلى جهات تستفيد من خبراتهم بدوام كلي أو جزئي، بل حتى في برامج التطوع المجتمعي التي تستطيع احتضان وتسخير هذه الجهود لما فيه مصلحة الوطن والمواطن؟