الانتحار: 800 ألف ضحية سنوياً
مع مرور كل 40 ثانية، يلقى شخصاً حتفه منتحراً. هذه الحقيقة المؤسفة، تجعل من عدد ضحايا الانتحار يتخطى الـ800 ألف شخص سنوياً، وتضع الموت انتحاراً في المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات بين الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاماً. وبخلاف مئات الآلاف ممن ينجحون في إنهاء حياتهم بهذه الطريقة، تقدر الدراسات أن أضعاف هذا العدد، يحاولون أيضاً إنهاء حياتهم، ولكنهم يفشلون. وأمام هذا الواقع المؤلم، تسعى نظم الرعاية الصحية الوطنية، والهيئات والمنظمات الدولية الخيرية، لتسليط الضوء على الانتحار، كمشكلة صحية خطيرة، وذلك من خلال العديد من الفعاليات والأنشطة وحملات التوعية في اليوم العالمي لمنع الانتحار (World Suicide Prevention Day)، والذي يحل كل عام في العاشر من سبتمبر، ووافق يوم السبت الماضي للعام الحالي.
ومن بين طرق الانتحار المختلفة -وهي عديدة- يقدر أن 30 في المئة من حالات الانتحار تتم عن طريق تناول المبيدات الحشرية، وخصوصاً في المناطق الريفية بين سكان الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. ويعتبر قتل النفس من خلال الشنق، أو باستخدام الأسلحة النارية، من وسائل الانتحار الشائعة أيضاً. ويحتل تحديد وسائل وأساليب الانتحار أهمية خاصة في رسم الاستراتيجيات الهادفة لمنعه ووقفه، وخصوصاً على صعيد الحد من توفر هذه الوسائل، ومن سهولة الوصول إليها والحصول عليها. فلسبب أو لآخر، كلما كانت وسائل الانتحار متوفرة وسهل الحصول عليها، كلما زادت معدلات الانتحار الناجحة.
فرغم كون الانتحار سبباً رئيسياً للوفيات بين أفراد الجنس البشري، ومشكلة صحة عامة دولية بكل المقاييس، فإنه سبب يمكن تجنبه، ومشكلة صحية يمكن تحقيق الوقاية منها، من خلال تفعيل عدد من الإجراءات والتدابير المعروف عنها فعاليتها على هذا الصعيد. ومن ضمن هذه الإجراءات، أولاً: تحجيم وتصعيب الحصول على وسائل الانتحار الشائعة، مثل المبيدات الحشرية، والأسلحة النارية، وبعض أنواع الأدوية والعقاقير الطبية. ثانياً: التغطية الإعلامية المسؤولة لحالات الانتحار. ثالثاً: تحجيم استخدام الكحوليات، لمنع الضرر النفسي والجسدي الناتج عن فرط استخدامها. رابعاً: التشخيص المبكر، وعلاج، ورعاية الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية، ومدمني المخدرات، ومن يعانون من آلام جسمانية مزمنة، أو من آلام نفسية واضطرابات عاطفية شديدة. خامساً: تدريب أفراد الفريق الطبي، غير العاملين في مجال الصحة النفسية، على التعرف على الأشخاص المعرضين لقتل أنفسهم، وعلى كيفية التعامل الآني مع السلوك الانتحاري. سادساً: متابعة الأشخاص الذين حاولوا الانتحار سابقاً، وباءت محاولاتهم بالفشل، وتوفير الدعم الاجتماعي الكاف لهم. كون محاولة الانتحار سابقاً، هي أهم عوامل الخطر لتكرار المحاولة.
وفي ظل حقيقة أن الانتحار في جوهره موضوع معقد، متشابكة أسبابه وعوامل الخطر الدافعة نحوه، يجب أن تتضمن الجهود الرامية لمنعه ووقفه، على تعاون وتنسيق بين قطاعات متعددة من المجتمع، بما في ذلك القطاع الطبي، وقطاع التعليم، والعمل، والزراعة، والقضاء والعدالة، والسياسة، والإعلام، والقطاع الخاص، وغيرهم. ويجب أيضاً أن تكون هذه الجهود شامله ووافية، ومتكاملة ومتناسقة مع بعضها البعض، حيث لا يمكن لمقاربة أحادية منفردة أن تترك أثراً يذكر على موضوع بالغ التعقيد كمأساة الانتحار.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين الانتحار وبين الاضطرابات النفسية والعقلية -كالاكتئاب وإدمان الكحوليات مثلاً- هي علاقة واضحة وبينة، وخصوصاً في الدول الغنية، فإن العديد من حالات الانتحار تحدث في لحظة اندفاعية نزوية أوقات الأزمات الحادة، وبسبب انهيار القدرة الشخصية على التعامل مع ضغوطات الحياة، مثل الضوائق المالية، وتأزم العلاقات الشخصية والزوجية، أو بعد المعاناة الطويلة مع مرض مزمن أو آلام مبرحة، وبالإضافة إلى ذلك، ترتبط الحياة في مناطق الصراعات المسلحة ارتباطاً وثيقاً بالسلوك الانتحاري، مثلها في ذلك مثل الحياة في مناطق الكوارث البيئية والطبيعية، أو التعرض لإساءة المعاملة بدنياً أو جنسياً، أو للعنف، أو لفقدان عزيز أو حبيب، أو الإحساس بالعزلة والوحدة. وتتميز الفئات المجتمعية التي تتعرض لأية شكل من أشكال التمييز السلبي، لأسباب عرقية، أو دينية، أو جنسية، لمعدلات أعلى من الانتحار، مقارنة بباقي فئات وطوائف المجتمع. ومن بين الفئات العمرية، تعتبر فئة منتصف سنوات المراهقة إلى سنوات الشباب – من 15 إلى 29 عاماً- من الفئات الأكثر عرضة للانتحار. ويعود السبب في ذلك إلى كون سنوات المراهقة والشباب المبكر مرحلة حرجة، يتزايد فيها خطر الوقوع فريسة للاضطرابات النفسية، وهو ما يفرض على الاستراتيجيات الهادفة للوقاية من الانتحار، أن تولي اهتماماً خاصاً وأن تتبنى إجراءات وتدابير قادرة على الوصول إلى هذه الفئة العمرية بالتحديد.