الوثيقة التي نشرتها إحدى الصحف العربية مؤخراً تحت عنوان مثير واعتبرتها «أخطر وثيقة سرية سودانية أججت الصراع وأشعلت نار الفتنة في دارفور»، في الواقع ليست «أخطر وثيقة» في هذه المرحلة «الخطرة» من تاريخ السودان، وكل ما ورد من وقائع وأحداث وأفكار ثورية في هذه الوثيقة هو محصلة أفكار وأحلام حسن الترابي. وعلى كثرة الوقائع والأحداث والسرد التفصيلي لأسماء صانعيها، من «أولاد الزغاوة النجبا»، كما تسميهم الوثيقة، وعلى كثرة الصفحات التي سودها كتابها واستجدائه الغفران من أهل دارفور أجمعين، وإعلانه التوبة والرجوع عن «الجرائم» التي ارتكبها، وتوجيه النصيحة لأهله «الزغاوة» ووطنه السودان، بل لدول كبرى مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وإسرائيل التي يتردد ذكرها كثيراً في الوثيقة ودورها في تسليح وتمويل وتدريب كوادر الزغاوة الذين ذهبوا إليها سراً... مع كل هذا السرد التاريخي المطول لحركة ثورة الزغاوة التي بدأ الإعداد لها بين عامي 1967 و1978 عقب صدام قبلي كريه بين قبيلتي المحاميد والزغاوة أمكن للحكومة السودانية احتواؤه في مؤتمر للصلح بين القبيلتين، لكن، كما كتب ناشر الوثيقة، فإن «المسكنات الوقتية»، من مؤتمرات الصلح ودفع الديات، لم تنجح في علاج الداء الكامن، أي القبلية التي يستغلها «مثقفو دارفور» ويركبون موجاتها لتصعد بهم إلى مقاعد السلطة والثروة في الإقليم وفي الخرطوم. لا بد من التساؤل عن دور الدكتور خليل القائد البارز الآن في المجموعات الدارفورية المسلحة، وعن دور زميله عبدالواحد، وما نسبته إليهما الوثيقة من جرائم. فالوثيقة تتحدث عن مؤتمر تقول إنه أسس للرؤية الثورية لقبلية الزغاوة ووضع برامج لإطلاق حركات النهب المسلح لثروات وأراضي قبائل دارفور غير الزغاوية، واغتيال زعمائها، وإرهاب هذه القبائل وإخافتها كي تضطر إلى النزوح عن مناطقها وأحيائها وتحويلها إلى مستوطنات زغاوية على نمط المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين. كما يتعين سؤال الأحياء من جيران الترابي الذين وقفوا معه في تأسيس «المؤتمر الشعبي»، وتلاميذه الذين غادروه إلى «المؤتمر الوطني»، عما نسبته الوثيقة لزعيمهم من أدوار في دعم واحتضان حركة الزعاوة. فالوثيقة تتطرق إلى خطتهم في «استغلال» الترابي واختراق حلقته الضيقة بأبنائهم «النجباء»، حتى إذا جاءت «الإنقاذ» تهيأت لهم «الفرصة التاريخية»، حيث فتح لهم نظام «الإنقاذ» أبواب الدولة العسكرية والأمنية والإدارية. وفي ما يخص دور جون قرنق، تقول الوثيقة عنه إن له تصريحات وأفكاراً عن قبيلة الزغاوة التي وصفها بأن ليست قبيلة سودانية، وكان كثير التردد في عقد اتفاق معها، لكن الطلائع من أبناء الزغاوة نجحوا في الضغط على قرنق. وعند مطالعة أخطر وثيقة سرية سودانية أججت الصراع وأشعلت نار الفتنة في دارفور، يتضح أن الزغاوة قد «استغلوا» -حسب رواية كاتب الوثيقة التائب عن ذنوبه ومشاركته في الجرائم الكثيرة المقترفة بحق بقية القبائل الدارفورية- في تنفيذ مشروعهم الخطير، أشخاصاً كثيرين، بدءاً بالترابي مروراً بالمسؤولين الأميركيين والفرنسيين والألمان والإسرائيليين والتشاديين. والسؤال الذي يرد على الذهن: هل كل من ذكرتهم الوثيقة، من سودانيين وأجانب، هم على درجة من الغباء والجهل أعمتهم عن اكتشاف خطر مشروع الزغاوة، أم أنهم بدرجة من الانتهازية جعلتهم يركبون موجة الثورة الزغاوية لتحقيق أغراضهم وأهدافهم الوطنية أو الشخصية، وهم على علم بكل ما حدث من جرائم ضد السودان والإنسانية؟ في تقديري أن الجميع كانوا يعلمون ويتظاهرون بأنهم لا يعلمون. فعندما تكون ممارسة العمل السياسي الوطني لا تستند إلى خلق وقيم ومُثل، بل تدفعها الطموحات الشخصية والأحقاد الكريهة، فإنها تقود المرء إلى كل ما ورد في الوثيقة من أعمال قتل وسحق وقتل وارتماء في أحضان الغربيين والإسرائيليين، لدرجة أن بعض أبناء المسلمين (من الزغاوة) رضوا لأنفسهم أن ينكروا الإسلام ويتهمونه بكل قبيح! ----------------------------- عبدالله عبيد حسن* ----------------- *كاتب سوداني مقيم في كندا