شاهدتُ حلقة تحليل سياسي على إحدى الفضائيات الإخبارية العربية، وقد جمع مقدم الحلقة ثلاثة من «خبراء» السياسة، وبعد ساعة من المتابعة المتواصلة، لم أتوصل إلى أية حقيقة أو معلومة جديدة أو موقف محدد! كل الكلمات والمداخلات عبارة عن توقعات، وإسقاطات على واقع قديم! كان أحد هؤلاء المحللين يضع بين عينيه سياسة بلاده، بعيداً عن صراحة المشهد التي تتطلب تَحلُّلَ المُحلِّلِ من أية ضغوطات أو مقاربات مجتمعية. وكان هذا المُحلِّل «يُدغدغ» عواطف حكومة بلده، ولا يريد الخروج عن مآلاتها، رغم أنه يساري سابق قبل أن ينقلب يمينياً. مقدم البرنامج أيضاً كان مُحاذراً لجنسيته، رغم أنه يقدِّم نفسه «ليبرالياً» في الأوساط الإعلامية، وفي الجلسات «الليلية»، بدأ هو الآخر يُساند توجهَ الدولة التي تبث منها المحطة، رغم ما يبدو منه أنه ليبرالي في الشكل والهيئة. ونحن نعلم –في عالم الإعلام- أهمية الحياد في طرح قضايا النقاش. مشاركون آخرون لم يتخلصوا من أثار «الدولة الريعية»، ولم يُبدوا رأياً يتعارض مع الموقف أو التوجه الرسمي لبلدانهم، فيما يتعلق بالأحداث الجارية حولنا. كان بودي أن يحترم أحدهم عقل المشاهد وفكره، وأن يُبعد عن رأسه شبح َ «الحكومة» ويُقنع المشاهدين بحقيقة الموقف القائم في العالم العربي برمته. كان بودي لو تناول ذلك البرنامج التلفزيوني «التحليلي»، المؤتمر الأخير الذي عقده جون كيري، وزير الخارجية الأميركي الأخير، في مدينة جدة، لأن الغموض قد شاب ذلك المؤتمر وما حوله، وهل نحن بصدد اتجاه أميركي لخلق «واقعٍ حوثي» في اليمن يأتي بفيدرالية يتمتع فيها الحوثيون بمزايا تؤهلهم للَعبِ أدوار لا تريدها دول المنطقة، وتخلق ما يُمكن أن يزعزع الأمنَ والاستقرارَ في الإقليم على غرار «حزب الله» اللبناني؟ وهل فعلا ً أميركا تدفع بهذا الاتجاه؟ في أغلب البرامج الحوارية السياسية نلاحظ الحذر والتوجس والتردد والالتفاف حول الحقيقة، ولا أريد التعميم هنا. إن التحليل السياسي يجب أن يركن إلى قراءة معطيات الواقع، وأن يضيف إليها التصور المستقبلشي لمآلات الحال، بحياد العالم الذي يجب ألا يستحي أو يخاف من أية جهة. لكن للأسف، فإن أغلب «مُحللينا»، وهم يتأنقون في الفضائيات يحملون في جيوبهم الرقيب الذي «يلكزهم» كل لحظة لو اقتربوا من الخط الأحمر. وبذلك تنتفي الحقيقة، ويصبحون «مُحلِلينَ» لطلاق غير بائن. أعترف بأنها حقيقة نراها يومياً على شاشات المحطات العربية، وبأنني لو كنت مكان أحدهم لأصبحت مثله، ولا أخجل من أن أُصرح بذلك، لأننا نعيش في مجتمع وظروف تفرض هذا الشكل من التصرف. ولمَ لا؟ فكلنا فردٌ في «القطيع»، ولا عيب في ذلك، والذي يقول غير هذا، يبالغ في تقمص دور البطولة. لقد ولى زمن «البطولات» والشوفينية الثورية، وظهرت لدينا الواقعية السياسية، بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والأمنية والعسكرية، ولا يجوز القفز على «المعطيات» لأنها تُشكل الدستور الذي يحكم علاقات الناس في كل بلد. لذا، فأنا ضد «بيع الأحلام» و«الألوان الوردية» للمشاهدين، لاسيما أن الواقع السياسي في كثير من جوانبه غير واضح للشعوب العربية، وأن تناقضات اليوم تشكل أساساً متيناً لحتميات الغد التي لا يمكن تغييرها، وليس على الشعوب إلا أن تعيش تلك التناقضات، وإن سرقت الرغيفَ من فم أطفالها. أتمنى مُخلصاً أن تكون تحليلات من يظهرون على الشاشات العربية، ليست لسد وقت البرنامج المطلوب من المقدم، بل لتنوير المتلقي العربي، واستكناه ما سيكون عليه غده!