لم تتوقف حركة روسيا على الصعيد الدولي في السنوات الثلاث الأخيرة، التي تمثل نقطة تحول في سياستها الخارجية. قطعت شوطاً لا بأس به فى التحول من الدفاع والسعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، إلى الهجوم ومحاولة امتلاك زمام المبادرة في الشرق الأوسط. لم يبذل الرئيس بوتين جهداً كبيراً لاستعادة نفوذ روسيا في هذه المنطقة. وجد الطريق ممهداً أمامه دون مشقة أو عناء، بعد أن قلص الرئيس أوباما دور الولايات المتحدة وحضورها. بدأ هذا التحول مع نجاح موسكو في إعادة تأهيل حليفيها الأساسيين في المنطقة، النظامين السوري والإيراني، وتقديمهما إلى المجتمع الدولي في صورة يمكن قبولها. فقد سعت روسيا للالتفاف على اتفاق جنيف 2012، وتفريغه من مضمونه. واستثمرت تردد واشنطن وخوفها من التورط في الأزمة السورية، فعقدت معها صفقة نزع أسلحة نظام الأسد الكيماوية مقابل استبعاد أي تدخل عسكري أميركي. وتزامن ذلك مع دور روسي في ترتيب مفاوضات بدأت في نوفمبر 2013 بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ومعها ألمانيا، وأدت إلى اتفاق حول برنامج طهران النووي في يوليو 2015. كما استغلت روسيا تنامي خطر الإرهاب بعد توسع تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، والصدمة التي ترتبت على احتلاله الموصل في يونيو 2014، لتعزيز حضورها في المنطقة من ناحية، وإكمال عملية تأهيل النظامين السوري والإيراني من ناحية ثانية. فقد غطى الإرهاب الذي كان في حالة تمدد عسكري مخيف على المشروع الإيراني الذي يتمدد سياسياً عبر الميليشيات التابعة له في بعض البلاد العربية. وكانت موسكو تتحرك في الوقت نفسه لصد ما رأته تهديداً من جانب «الناتو» لمجالها الحيوي بشرق أوروبا انطلاقاً من دعم نفوذه في أوكرانيا. فقد اجتاحت منطقة القرم الأوكرانية وضمتها في مارس 2014، بعد أن اتهمت حكومة كييف بإرسال قوات خاصة إلى هذه المنطقة لتهديد استقرار روسيا. وكان إبرام اتفاق مينسك في سبتمبر 2014، وتطويره في فبراير 2015، اعترافاً ضمنياً من جانب الغرب بضم القرم لروسيا. لكن موسكو لم تلبث أن انسحبت من المفاوضات التي أطلقها هذا الاتفاق، لكي يتسنى لها الاستمرار في سياسة فرض الأمر الواقع على النحو الذي فعلته عندما ضمت القرم. وشهد الأسبوع الماضي تحركين روسيين جديدين في الشرق الأوسط وشرق أوروبا. حظيَ أولهما باهتمام إعلامي واسع، وهو استخدام قاعدة همدان العسكرية الإيرانية بدعوى شن غارات على مواقع الإرهابيين في سوريا. مما يدل على أن موسكو تسعى إلى استغلال حاجة الإيرانيين إلى تدخلها في سوريا لكي توسع نطاق نفوذها، وتوجه رسالة تفيد بأن حضورها فى سماء المنطقة يتجاوز الأجواء السورية وما حولها. وقد وصلت هذه الرسالة رغم أن طهران أوقفت بعد أيام استخدام الطائرات الروسية لقاعدة همدان، واتهم وزير دفاعها حسين دهقان موسكو بأنها لا تريد سوى استعراض قوتها وتكريس حضورها كقوة عظمى. غير أن هذا الاستعراض كان قد حقق الغرض منه، ووصلت الرسالة التي تفيد بأن موسكو عازمة على استخدام عودتها إلى المنطقة لتعزيز مركزها دولياً. وليس متوقعاً أن تؤدي مراجعة إيران موقفها بشأن وجود روسيا في قاعدة همدان إلى تغيير في العلاقة بين الدولتين. فستظل إيران بحاجة إلى الدور العسكري الروسي في سوريا التي تُمثّل مركزاً رئيسياً لمشروعها الإقليمي، وستبقى موسكو بحاجة إلى التعاون مع إيران لأن الشرق الأوسط أصبح المركز الرئيسي لمشروعها الدولي المتسم بطموح غير محدود. أما تحرك روسيا الثاني الذي لم يحظ باهتمام واسع فهو تقديم دعم كبير لمجموعات تابعة لها في شرق أوكرانيا بعد إحباط عمليات إرهابية في القرم، واستباقاً لمفاوضات متوقعة حول هذه الأزمة على هامش قمة العشرين التي ستُعقد في الصين الشهر المقبل. وهكذا تلجأ روسيا في إطار طموحها اللا محدود إلى سياسة فرض الأمر الواقع لتوطيد نفوذها في الشرق الأوسط، ومحاولة استعادة بعض ما خسرته في شرق أوروبا، على نحو يثير سؤالاً عما إذا كانت قادرة على استغلال انكفاء السياسة الخارجية الأميركية لتغيير بعض ملامح النظام العالمي في المنطقة بين بحر قزوين والبحر المتوسط.