الأكراد أمة شقيقة عريقة ذات تاريخ مشترك مع الأمة العربية في إطار الحضارة العربية الإسلامية، وعطاء أبناء الأمة الكردية في هذا الإطار معروف، والعيش المشترك بين أبناء الأمتين حقيقة تاريخية، وقد تعرض كل من العرب والأكراد للتمزيق بفعل المصالح الاستعمارية، وحلمهما القومي مشروع، أي الحلم بدولة قومية واحدة تجمعهم، وكلاهما أخفق في تحقيقه مع فارق هو أن للعرب اثنتين وعشرين دولة يحكمونها بينما يتوزع الأكراد على أربع دول في المنطقة ليست لهم سلطة عليا في أي منها، ولذلك فمحاولاتهم في هذا الاتجاه تعود في التاريخ المعاصر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حين أُقيمت جمهورية مهاباد الكردية على الأرض الإيرانية، ولكن معضلتهم أنهم لا يبدون واعين لدروس الخبرة التاريخية لهذه المحاولات، فعلى مدار سبعة عقود تبلور نموذج تاريخي يشير إلى تعقد عملية تحقيق الحلم القومي الكردي، فهو يصطدم بإرادات إقليمية وعالمية تتحالف أحياناً لوأد الحلم، ولذلك ليست مصادفة بالتأكيد أنه لم يتحقق لأن هذه الإرادات لا تساند الحلم لذاته وإنما لمصلحتها الذاتية وعندما تتحقق المصلحة تنتهي المساندة. وقد ذكرتنا الدكتورة نيفين مسعد أستاذة العلوم السياسية بهذا النموذج التاريخي بما كتبته على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي، ففي 1946 دعم الاتحاد السوفييتي عندما دخلت قواته الأراضي الإيرانية تأسيس جمهورية مهاباد كأداة لمد نفوذه، وعندما اضطر لسحب قواته انهارت لتوها. وفي سبعينيات القرن الماضي أيد شاه إيران تمردهم ضد الحكومة المركزية في العراق وبمجرد توقيع اتفاقية اقتسام شط العرب بينه وبين صدام حسين في 1975 أنهى تأييده هذا وانتهى التمرد معه، وفي التسعينيات حاول حافظ الأسد أن يلعب بالورقة الكردية في صراعه مع تركيا، فاستضاف عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني الانفصالي إلى أن هددت تركيا بالتدخل في سوريا لوضع حد لهذا التهديد فتخلى الأسد عنه في 1998 ليُقبض عليه في نيروبي بعد عام. وهكذا كان الدرس واضحاً ومؤداه أن مصالح الدول الداعمة للأكراد لها الأولوية، فإذا تعارضت المصالح تكون التضحية أكيدة بالمصالح الكردية. وفي أعقاب الغزو الأميركي للعراق بدا وكأن النموذج السابق في طريقه للتغير فقد أدت السياسة الأميركية في العراق بعد الغزو إلى تفكيك الدولة والمجتمع وحصل الأكراد في إطار الترتيبات السياسية الجديدة على وضع فيدرالي تجاوز بكثير أسس النظام الفيدرالي إلى وضع الدولة من الناحية العملية! وبدا أن الحلم قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، وبدأت تصريحات زعماء الإقليم الكردي في العراق تتحدث صراحة أن إعلان الدولة قد آن أوانه، ثم امتد التفكك بدوره إلى سوريا بفعل «الربيع العربي» وتفاقم الإرهاب للسبب ذاته، ووصل الأمر إلى حد إعلان «دولة» إرهابية على جزء يعتد به من إقليم العراق سرعان ما امتدت إلى سوريا، ولعب الأكراد أدواراً بطولية في التصدي لهذه الموجة الإرهابية الكريهة ففتح هذا شهيتهم من جديد لحلم الدولة وخاصة أنهم تمتعوا بمساندة الولايات المتحدة. وسارع الأكراد إلى إعلان النظام الفيدرالي من طرف واحد، مدعين أنه سيكون إطاراً لسوريا الجديدة! ولكن أي نظرة متعمقة لوثائق الإقليم الذي أُطلقت عليه تسمية «روج آفا» تشير إلى مشروع لدولة مستقلة! وعندما نجح الأكراد مجدداً في تحرير مدينة منبج بدعم أميركي وأصبحوا على مقربة من حدود تركيا فاقتحمت قواتها بالاشتراك مع عناصر موالية لها من الجيش السوري الحر مدينة جرابلس بحجة طرد عناصر «داعش» منها، وتلت ذلك الأوامر الأميركية للأكراد: غرب الفرات خط أحمر، وبدا أن النموذج التاريخي ما زال على حاله. ليت أبناء الأمة الكردية العريقة يستفيدون من خبرة التاريخ القريب ويدركون أن قدرهم مرتبط تاريخياً بقدر الأمة العربية الشقيقة، وأن التحقيق الأمثل لحلمهم القومي لن يكون الانفصال بالضرورة فدونه أهوال، كما أنه يفتح الباب لمزيد من التفكك، وهم واعون بالاختلافات فيما بينهم، وإنما الحل في ضمان حقوقهم القومية المتكافئة في إطار الحدود السياسية القائمة خاصة، وقد انتهت إلى الأبد تلك النظم الاستبدادية التي كانت وبالاً عليهم وعلى أشقائهم العرب في الوقت نفسه. ------------- أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة