الدول الفاشلة وأسباب التفكك
بعد عدة سنوات من انطلاق الاحتجاجات في بعض الدول العربية التي كانت بدايتها الاحتجاجات العارمة في تونس في ديسمبر 2010، يتفق كل المختصين اليوم على أن الخريف السياسي هو السمة الأساسية للعديد من تلك الدول التي كان بالإمكان أن ترسم لنفسها مساراً أكثر نضجاً وأكثر عطاءً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. والأدهى من ذلك أن دولاً دخلت في غيابات الحروب والصراعات الداخلية متبوعة بتدخلات أجنبية وعلى رأسها تدخلات شياطين الإنس من «داعش» والعناصر الإرهابية الذين يتدفقون عليها من كل صوب وحدب. وتلك الدول في حالة انفجار وتفكك يومي، ولا أظن أن فترة سنوات أو عقدين من الزمن كافية لرأب الصدع وجمع الشمل بين أبناء البلد الواحد، وبناء الدولة والمؤسسات في تلك البلدان حتى في حالة ما إذا توقفت حالة الانهيار الآن.
إن الوضع خطير جداً، وتسلسل الأحداث يوحي بأن بعض الدول المؤثرة في النظام الدولي هي أكثر نفاقاً من أي وقت مضى، وأنها لا تهتم إلا بمصالحها الداخلية والاستراتيجية، ولعل خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي يعد أقرب مثال على ذلك. كما أن اشتعال الأزمات غير المنتظرة في مناطق عديدة يزلزل قواعد التحالفات.. واليد التي كانت تمتنع عن المصافحة تتحول بين عشية وضحاها إلى يد مصفقة ومسالمة بل إلى مغازلة كما هو شأن تركيا مع روسيا، فسيناريو تحالف «تركي- روسي- إيراني» يتعزز كل يوم، وهو من الخطورة بمكان على المنظومة العربية وبالأخص على دول المنطقة في الشرق الأوسط.
وبالرجوع إلى دول الخريف العربي، فإن الجرح يستحيل أن يبرأ في تلك الدول سريعاً، وهي مسألة جيل، بل أجيال بأكملها، كما أن المجال السياسي العام سيبقى ملغوماً بألغام عجيبة قد يتأخر تفجيرها حسب الظروف والأحوال. والفاعلون السياسيون في تلك الدول يركبون أمواج الأحداث ويتصارعون داخلها ولا يأخذون وقتاً للاستعداد ولا للتفكير ولا لصياغة الاستراتيجية لينجو الجميع قبل أن يحاط بهم، علماً بأن العلوم السياسية قد سطرت كل القواعد الضرورية لبناء الدول والمجالات السياسية العامة.
فكبار المتخصصين في العالم في أدبيات الانتقالات الديموقراطية، ?وعلى ?رأسهم ?فيليب ?شميتر ?وألفرد ?ستيبان، أسسوا في مجال العلوم السياسية المقارنة خصوصاً في أميركا ما يسمى (Democratization studies)?، ?فقد ?ميزوا ?في ?مسيرة ?الدول ?التي ?تعرف ?انهيار ?النظام ?السلطوي ?بين ?التحول ?الديموقراطي ?وتثبيت ?الديموقراطية، ?بمعنى ?أن ?التحول ?وحده ?لا ?يكفي ?لتكريس ?الفكرة ?الديموقراطية ?على ?الواقع ?وفي ?عقول ?أولئك ?الذين ?كانوا ?ضحايا ?غيابها، ?ودفعت ?أوطانهم ?غاليّاً ?ثمن ?ذلك ?الغياب. ?فالديموقراطية ?تبقى ?في ?خانة ?الانتظار ?إذا ?لم ?يتغير ?المجال ?السياسي ?المغشوش ?من ?سلطة ?ومجتمع ?مدني ?وأحزاب ?سياسية ?إلى ?مجال ?سياسي ?حقيقي ?يتساوى ?فيه ?الجميع ?ويتبارز ?فيه ?الفاعلون ?على ?قواعد ?ديموقراطية ?تحكمهم ?بعد ?تطوير بعض ?البنيات القديمة ?من ?وعي ?ومؤسسات ?كانت ?تحجز ?التطور ?وتكبح ?سيرورة ?التاريخ.
وبعد دخول المجتمع السياسي الحديث إلى هذه الخانة، يمكن أن نسمي الدولة الجديدة بالدولة الديموقراطية لأننا نكون قد انتقلنا من فترة التحول الديموقراطي إلى فترة التثبيت الديموقراطي، وبمعنى آخر، فأيّاً كان التغيير ونوعيته وطريقته، عن طريق تدخل أجنبي أو عن طريق ثورة أو حتى تأثير الدول المجاورة أو عن طريق الميثاق التعاقدي، فإن تثبيت الديموقراطية يبقى رهيناً بالمسار الذي يعطيه الفاعلون للتحول: فإما أن يؤدي بالبلاد والعباد إلى بر التغيير الجذري الذي يخلق منظومة معرفية وتطبيقية سياسية كاملة حول الحق الطبيعي والتعاقد والمواطنة، وإما أن يؤدي إلى وادٍ غير ذي زرع من سلطوية جديدة.
والأجدر بالفاعلين الكبار عندما تصل دولة من الدول إلى نقطة التحول الديموقراطي (التي لا تعني إطلاقاً وصول قاطرة الديموقراطية نهائيّاً) هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد وتصور قانون أسمى للبلاد وإعماله بطريقة سريعة ومرْضية للجميع عن طريق التوافق الشعبي.
إن المرحلة التي يمر منها العالم صعبة وصعبة جداً ولا تسمح بتضييع الوقت في الارتجالية والتفاهات... والدول التي دخلت إلى عالم الصراعات الداخلية اللامتناهية لن يرحمها أحد ولن يخرجها من مأزقها إلا ذاتها.. والدولة ما سميت أصلاً دولة إلا لأنها تتوفر على سيادة، وتلك السيادة تفرض على أبنائها العمل على تهيئة كل سبل وظروف التنمية والثقة والعيش المشترك، أما إذا أضحت حلبة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية فإنها ستصبح عرضة للتفتت والتفكك الداخلي وعرضة للتدخلات الأجنبية المتنوعة من دول ولوبيات وأفراد وجماعات إرهابية.