بدأت يوم الثلاثاء الماضي في أديس أبابا «العاصمة الأثيوبية» جولة جديدة من جولات «الحوار الوطني» بين أطراف المعارضة السودانية (المسلحة وغير المسلحة) وحكومة الخرطوم. وتمثلت أحزاب المعارضة التي التحقت بالحوار الوطني بأحزاب «الأمة القومي» برئاسة الصادق المهدي، و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» برئاسة مالك عقار، والمعارضة المسلحة في دارفور بقيادة جبريل، وغاب عن المشاركة في جولة أديس أبابا الجديدة «الحزب الشيوعي السوداني» الذي أعلن مبكراً عدم موافقته على التفاوض مع الحكومة قبل استجابتها لشروط المعارضة، ومنها إطلاق سراح المحكومين والمعتقلين من نشطاء المعارضة الداخلية، ورفع حالة الطوارئ المعلنة منذ 30 يونيو 1989، ورفع الحظر الجزئي على نشاط أحزاب المعارضة السلمي، والموافقة على قيام حكومة قومية انتقالية لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. لكن حدث أمر جديد دعا المعارضة، عدا «الحزب الشيوعي»، إلى التنازل عن شروطها، إذ قدم الوسيط الأفريقي (أصبح وسيطاً دولياً)، ثابو أمبيكي، مشروع خارطة طريق للحوار وأجندة جديدة في صياغتها (وليس في جوهرها)، وعرضها على الطرفين. سارعت الحكومة السودانية بالموافقة عليها، محققة بذلك مكسباً جديداً ضد المعارضة التي بادرت برفض «خارطة أمبيكي»، بل سارع بعض قادتها لأبعد من الرفض واتهام الوسيط بالعمل لمصلحته الشخصية! وذلك ما يجعل السودانيين يتساءلون اليوم: ما الذي جرى وجعل أولئك «الزعماء» المعارضين بشدة يسارعون بالموافقة على طاولة «الحوار الوطني» وفقاً لـ«خارطة أمبيكي»، دون أن يتحقق أي من شروطهم المعروفة؟! الحقيقة المغيبة عن عامة الناس أن ما جرى ما بين مؤتمر برلين، ومؤتمر باريس، ومؤتمر أديس أبابا الذي بدأت أعماله يوم الثلاثاء.. أن المعارضة، خاصة المسلحة، تعرضت لضغوط دولية وأفريقية و«نصائح» من أصدقائها بعدم «التصلب» وممارسة السياسة بشروطها الواقعية. كذلك تعرضت الحكومة لضغوط شديدة، ليس من الخارج فحسب، ولكن أيضاً من الواقع الذي تعيشه الآن، والمنذر بحالة إفلاس علني سيواجهها السودان لو لم يتقدم «الخيرون» لمساعدته على الخروج من أزمته المالية التي وصلت به حد العجز عن سداد فوائد الديون الخارجية والداخلية المتراكمة. يقول بعض المعارضين في أديس أبابا إن أمبيكي أكد لهم أن الحكومة ستقدم تنازلات كبيرة أثناء اجتماعات أديس أبابا، ومن ذلك مثلاً أنها ستلتزم بإعادة «عبد العزيز الحلو» إلى منصبه السابق حاكماً لجنوب كردفان، و«مالك عقار» إلى منصبه السابق والياً للنيل الأزرق، وبإشراك بعض قادة المعارضة الدارفورية في الحكومة المركزية، شرط ألا يتكرّر الإصرار العنيد على مسألة الحكومة القومية التي لن ترى النور إلا بعد انتهاء ولاية الرئيس البشير وإجراء الانتخابات الرئاسية! من الواضح أن هذه التنازلات قاصرة على «الحركة الشعبية» ومقاتلي دارفور، فماذا عن «حزب الأمة»؟ معلوم أن الصادق المهدي أعلن مراراً أنه لن يقبل ولن يشارك في منصب رسمي بالتعيين من قبل رئيس جاء للسلطة بانقلاب عسكري. هذا الموقف يصر عليه المهدي منذ تجربته مع نظام مايو والاتحاد الاشتراكي، لكن الحكومة من جانبها، ووفقاً لاستراتيجيتها المعروفة، تريد دائماً احتواء «حزب الأمة»، كما فعلت مع «الحزب الاتحادي» (الأصل)، لكن في السياسة طرق أخرى قد تحقق بها الحكومة رغبتها في احتواء الحزب الكبير وتجنب المهدي التعرض لغضب أنصاره المتشددين. وماذا عن موقف «الحزب الشيوعي» الرافض؟ كثير من أصدقاء الحزب «المتشائمين» يرون أن موقفه صحيح سياسياً، لأن الحوار محكوم عليه بالفشل لعدم اكتمال شروطه التي تحقق له النجاح. وقليل من أصدقائه «الواقعيين» يرون أنه كان على الحزب الدخول في «الحوار»، مع الإصرار على الشروط التي توفر النجاح للاتفاق، ومن المبكر القول أي الموقفين هو الصحيح. وجولة أديس أبابا في بدايتها، لكن المؤكد أن التفاوض سيستمر ولن يرفع بعد الجلسة الافتتاحية كما حدث مرات عديدة بسبب عجز الطرفين على الاتفاق على أجندة الاجتماع، فالأجندة جاهزة والجميع موافقون على «خارطة طريق أمبيكي»!