التداعيات المريرة التي نجمت عما يعرف بـ«الربيع العربي»، وتفاقم خطر تنظيم «داعش»، والتنامي المطرد لشعبوية الجناح اليميني في مختلف البلدان الغربية، تعبر في مجملها عن إحباط متفاقم من النظام الديموقراطي الليبرالي، في فترة ما بعد الأزمة المالية عام 2008. وهناك إجماع آخذ في التزايد، على أن العالم يتجه نحو مرحلة مجهولة المعالم، وإلى عالم تسوده السلطوية، والشعبوية الضحلة، والتطرف المثير للقلق. ومن الطرق المستخدمة للتغلب على التذمر العالمي، الطريقة الخاصة باستخدام أفضل الأدوات المتاحة لدينا، لبناء ديموقراطية مباشرة أكثر شمولاً. والسؤال الذي يتبادر للذهن هنا هو: هل تساعد التقنيات الجديدة مثل تقنية الواقع المعزز (Augmented Reality (AR، وتقنية الواقع الفعلي (Virtual Reality (VR، والتحليل المنطقي للبيانات Data Analytics، وتقنية «بلوك تشين» Blockchain، على استرداد روح الحوار البناء، وكسب قلوب وعقول الناس، كما هو مأمول. والعمل على ترسيخ بيئتنا الحالية المثيرة للقلق، ينطوي على مفارقة ساخرة، فبفضل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، أصبح العالم أكثر اتصالاً بعضه ببعض أكثر من ذي قبل -ولكن المفارقة هي الناس العاديين، باتوا يشعرون بأنهم قد غدوا أكثر انفصالًا عن غيرهم في الآن ذاته. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال، تبين استطلاعات الرأي، أن الثقة في الحكومة قد تضاءلت، ووصلت إلى درجة تعد هي الأدنى خلال الخمسين عاماً الماضية. فأنصار ترامب المحبطون، والبريطانيون الذين صوّتوا على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، تولد لديهم إحساس بأنهم «قد أصبحو ضائعين»، في الوقت نفسه، الذي تعزز فيه النخبة العالمية سلطتها، وتغدو أقل استجابة لبقية المجتمع. ولا يعتبر هذا اعتقاداً غير منطقي، حيث وجد برانكو ميلانوفيتش، الأستاذ البارز في مبحث عدم المساواة، أن الناس في الدرجات الدنيا والوسطى من سلم توزيع الدخل في البلدان المختلفة، كانوا هم الخاسرين، خلال الخمسة عشر عاماً التي مضت من عمر العولمة. ولكن فترة الخمسة عشر عاماً هذه ذاتها، شهدت تطورات هائلة في التقنية، بدءاً من ظهور الإنترنت، إلى الانتشار المتنامي للهواتف الذكية في كل مكان. ويضاف إلى ذلك أن المجتمعات الغربية، كافحت إلى حد ما، من أجل تحديد بوصلتها، خلال هذه الفترة التي شهدت تحولات كبرى منها عمل جماعات العنف السياسي، على إغراء الشبان عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، والفرصة التي أتاحتها شبكة الإنترنت للمستهلكين لانتقاء الأخبار التي توافق معتقداتهم المدركة سلفاً فقط، وهو ما يخلق هوة دون قرار من الغضب الحزبي العارم، ونظريات المؤامرة، ونشرات أخبار قنوات «الكيبل»، التي تبث على مدار أربع وعشرين ساعة وعلى مدار الأسبوع، ما يؤدي إلى بقاء المشاهدين في حالة من التوتر والقلق. وباختصار يمكن القول إن التقنيات التي كان مقصوداً بها في الأصل تقريب بعضنا من بعض، تقوم بتقسيمنا، بدلًا من ذلك. لقد حان الوقت الذي يجب علينا فيه أن نجعل التقنية جزءاً من الحل. فالقادة والمبدعون والنشطاء جميعاً بحاجة، وعلى نحو أكثر عجلة من ذي قبل، إلى فتح السوق السياسي، للسماح للتكنولوجيا ببلورة قدراتها المتمثلة في إتاحة الفرصة للمواطنين، للتأثير على القرارات التي تمس حياتهم، واسترداد الجوهر الحقيقي للديموقراطية. ويمكن تسخير التكنولوجيا لتمكين المواطنين من المساهمة في العملية السياسية على نحو أكثر مباشرة. وكما جعلت تقنية «فينتيك» Fintech الاقتراض والاستثمار أكثر يسراً لأعداد تتزايد على الدوام من الناس العاديين، وكما أتاحت تقنية «إدتيك» Edtech الدراسة للحصول على درجة علمية عن طريق الإنترنت، فهل هناك ما يحول بين تقنية «فوتيك» Votetech وجعل الديموقراطية، أكثر ديموقراطية في الحقيقة، إذا جاز التعبير؟ وتقنيات التوثيق الحالية، مع الاستخدام المتزايد للهواتف الذكية، وأجهزة التابلت، يمكن أن تؤدي جميعها إلى تثوير عملية التصويت، بحيث تتجاوز بكثير مجرد اختيار المرشحين كل عامين، أو كل أربعة أعوام. وفي الوقت الراهن تطور شركة «إنوفوت» InnoVote ومقرها واشنطن، منتجاً يمكّن الناس من التصويت بشكل أكثر أماناً وراحة. والمفتاح لذلك، هو تقنية «بلوك تشين»، المشار إليها آنفاً، وهي تقنية قاعدة بيانات موزعة، طُورت في الأصل من أجل المعاملات المالية، وتحديداً من أجل التأكد من هوية الشخص الذي يجري المعاملة. وإذا ما نجحت الشركة في مسعاها، ووافق المسؤولون على تبني نظامها، فإن ذلك يمكن أن يوفر للناس طريقة مريحة للتصويت. فمن خلال هذه التقنية، يمكن للناخبين، وهم جالسون في بيوتهم، أن يسجلوا آراءهم بشأن أي مشروع قانون مطروح أمام المجالس التشريعية. وإذا كان الناس مشغولين بدرجة لا تسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات في الوقت الحقيقي، فإن التقنيات الحالية تمكنهم من تكوين أفضلياتهم السياسية سلفاً، وتجعل النظام يصوّت لهم مقدماً تلقائياً باستخدام تقنية التحليل المنطقي للبيانات Data Analytics. وفي مثل هذا النظام، سيصبح مشرّعو القوانين أكثر شبهاً بموصلين للمعلومات، وليسوا وكلاء عن دوائرهم الانتخابية. ومن المعروف أن الحقيقة هي ألد أعداء أي سياسي شعبوي ديماغوجي. وذلك لأن القادة السلطويون لديهم شيء واحد مشترك هو: أنهم كلهم يكذبون. والشاهد أن التقنيات الحالية، والتعدد الهائل في الوسائل الإعلامية تساعدهم على ذلك. ولكن ليس هناك ما يدعو لأن يكون الأمر على هذا النحو. ففي مستقبل ليس ببعيد، ستسمح أنظمة «الواقع المعزز» المقرونة بأجهزة قابلة للارتداء، للمواطنين بالاستماع إلى الخطب السياسية، أو قراءة مقالات الرأي، مع تقديم فحص حي ومباشر للحقائق تعرضه تلك الأجهزة عليهم. تخيلوا اجتماعاً افتراضياً، يُعقد في مقر البلدية لمناقشة قانون أو تشريع سيكون له تاثير عليكم. بفضل تقنية «الواقع الافتراضي» يمكنكم حضور هذا الاجتماع، حتى لو كنتم على بعد مئات الأميال. ومقارنةً بتقنية البث المباشر الحالية، يمكن لتقنيتي «الواقع المعزز» و«الواقع الافتراضي»، توفير قدر أكبر من الراحة والكفاءة، وإتاحة الفرصة للملايين للمشاركة في الوقت الحقيقي في أي مكان يكونون موجودين فيه، وليس فقط من أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. وعندما تصبح الأجهزة القابلة للارتداء أكثر شيوعاً في الاستخدام، فإن تلك التقنيات ستوفر فرصاً لا حدود لها للناس، لكي ينخرطوا بشكل كامل في عملية صنع القرار. وهناك تحديات تواجهها تلك التقنيات بالطبع: الأول يتعلق بإمكانية الوصول إلى هذه الأدوات الرقمية، التي ستظل غير متكافئة، حتى في الدول الموسرة حيث الاحتمال الأكثر رجحاناً هو أن لا يكون لدى سكان المناطق الريفية أو المجتمعات المحدودة الدخل إنترنت عريض النطاق، أو أجهزة متطورة. والثاني، أن المتشككين في تلك التقنيات، قد يذهبون إلى أن نظام التصويت الشعبي على كل التشريعات سيقود إلى ما أطلق عليه الآباء المؤسسون «طغيان الأغلبية». وهنا سيكون دور السياسيين والمحاكم رئيسياً، سواء كمفاوضين أو كمعلمين أو كأوصياء على حقوق الإنسان. والتحدي الثالث والأخير يتمثل في أنه كي يتسنى جعل نظام فحص الحقائق أكثر مصداقية فإن أجهزة إعلام التيار الرئيسي ستضطر إلى التخلي عن أفكارها العتيقة المتعلقة بـ«عدم الحياد»، والاستمرار في التحرك نحو نموذج -وخصوصاً في مجال القصص الخبرية السياسية- لا يتعامل مع التأكيدات على أنها صحيحة تلقائياً، ما دام لم يتم سماع رأي «الطرف الآخر في القصة». تحتاج المؤسسة العولمية أيضاً، إلى أن يتوافر لديها الاستعداد لإفساح الطريق، للسماح للابتكارات بأن تتبلور في العالم الواقعي. وهذا التحدي خصوصاً، هو أصعب التحديات جميعاً. وعلى المستوى المحلي، على أقل تقدير، يمكن للديموقراطية المباشرة أن تنجح، وهو ما تفعله في الواقع. وكل ما علينا هو أن نسأل أي شخص مقيم في مدينة من المدن الصغيرة مثل «نيو إنجلند» عن يوم اجتماع البلدية الذي يعقد كل شهر، كي ندرك هذه الحقيقة. وعلينا أيضاً أن نتذكر أن المؤسسة ذاتها تتحول نحو النهج الخاص بتبني فريق عمل أصغر سناً، وأكثر معرفة بالتقنية، يمكن تحويل طاقته نحو بناء مشروع ديموقراطي عظيم. وفي حين أن التكنولوجيا هي المفتاح الرئيسي، الذي يحتاج إليه هذا المشروع، فإن الإرادة السياسية تظل، مع ذلك، هي المحرك الأكثر أهمية على الإطلاق. ولذلك، فإن على أفراد النخب في كل مكان أن يسمحوا للناس العاديين بالمشاركة، وبأن تكون لهم كلمة مسموعة. ومن دون ذلك، فإن التكنولوجيا ستقود إلى تذمر، وإلى عزلةٍ وشعورٍ بالإقصاء لدى هؤلاء الناس، بدلًا من أن تولّد لديهم إحساساً بالعدالة والمساوة كما يُفترض. فهل يمكن القول إن الأمر قد تأخر أكثر من اللازم بالنسبة إلى الديموقراطية الليبرالية؟ نعم، إذا ما رفضت النخبة العالمية، التفكير بشكل مختلف. سينك سردار: كاتب متخصص في الشوون العلمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»