وافق يوم الثلاثين من شهر يوليو الماضي الذكرى الحادية عشرة لرحيل الزعيم السوداني الدكتور جون قرنق، وهي ذكرى تتجدد كل عام حاملة آثار الحزن المستمر على زعيم وقائد وطني قد حظي باحترام ومحبة السودانيين الذين عاصروه وعرفوا قدره ومقداره في الشمال والجنوب الغرب والشرق. ولقد شاءت الأقدار أن يرحل الزعيم السوداني في وقت كان بلاده في أشد الحاجة إليه، وإلى رجال ونساء مؤمنين وملتزمين بوحدة الوطن القائمة على العدل والمساواة وحقوق الإنسان التي تضمنتها المواثيق الدولية، والتي كانت للدكتور قرنق فضل تضمينها في الدستور السوداني الذي تعاقد فيه مع حكومة «الإنقاذ» في وثيقة نيفاشا التي أنهت نصف قرن من الحرب الأهلية المدمرة مخلفة وراءها ملايين من الضحايا والمشردين واللاجئين والأطفال اليتامى. وفي مقولة الدكتورة قرنق في ندوة له عقدت في القاهرة قبل توقيع اتفاقية نيفاشا ورداً على سؤال لزميل مصري: (ليس هنالك من يعرف مأساة الحروب أكثر من المقاتلين الذين اكتووا بنارها وعاشوا الدمار الذي تسببه ليس للأرض والزرع والضرع وإنما الدمار الأكثر على الروح البشرية). في اعتقادي أن أكبر إنجاز حققته قيادة جون قرنق للسودان هو إنهاء حرب الإخوة الأشقاء وليس مهماً بعد ذلك وقبله ما حدث بعد إنهاء الحرب الأهلية.. فإنهاء الحرب الأهلية كان قمة إنجازات د. قرنق والذي لم تمهله الأيام ليعيش ويستكمل مع الشعب السوداني برنامجه الذي عنوانه وقاعدته الثابتة بناء السودان الجديد. ولن يحاسب التاريخ قرنق على ما حدث بعد رحيله المبكر من أخطاء جسيمة وجرائم شنيعة ارتكبها خلفاؤه في الحركة الشعبية في حق الجنوب والشمال معاً، فقد سعى وجاهد من أجل أن يرتفع ب«الحركة الشعبية» فوق العصبية القبلية والجهوية، بل أيضاً حاول أن يرتفع السودانيون جميعاً إلى ذلك المستوى، وما دعوته للسودان الجديد هي في المبتدأ والمنتهى دعوة لوطن وشعب ووطن متحد حول السودانية الجامعة وشاملة لكل قبائل وأعراق وعقائد ولغات هذا الوطن الكبير... في هذه الأيام التي مرت خلالها الذكرى الحادية عشرة لرحيل قرنق القائد الوطني يحزن المرء أن ينظر إلى جنوب السودان وشعبه يعيش أياماً أشد ظلاماً وقسوة من أيام الحرب الأهلية.. أيام يقتتل فيه الأخوة قتالاً ليس له معنى ولا مبرر، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة في بيان صحفي صدر عنه منذ أيام وحذر فيه الحكومة والمعارضة الجنوبية بأنهم يعرضون دولتهم الوليدة للانهيار وشعبهم لآلام شديدة القسوة.. وما قاله الأمين العام للأمم المتحدة خطر، وهو موقف يتسق مع كل أصدقاء الجنوب وشعب الجنوب. جاءت كل هذه الخواطر والذكريات والأخوة السودانيون أثناء استقبال الأخ الدكتور منصور خالد، وزير خارجية السودان الأسبق، استجابة لدعوة منهم ليكون المتحدث الرئيس في ندوة يقيمونها في الذكرى الحادية عشرة لرحيل جون قرنق. وليس هنالك من هو أقدر على الحديث عن جون قرنق من رجل رافقه سنوات عدة، وكان مستشاره السياسي، ومن ثم زميله في عضوية «الحركة الشعبية لتحرير السودان». إن مبادرة تستحق التقدير والشكر، فإن من أوجب الواجبات على الأحياء الوفاء والإنصاف للراحلين من الرجال والنساء الذين قدموا وجاهدوا من أجل أوطانهم وشعوبهم. وإن من حق الإخوة الجنوبيين علينا وعلى المجتمع الدولي أن يسمعوا منا كلمة الحق رأفة بشعبهم ووطنهم الذين لا يدري أحد إلى أين هم سائرون به؟