ما بين ثورة التطهير الماوية والأردوغانية
تذكرت وأنا أتابع تداعيات الانقلاب العسكري التركي الفاشل يوم 16 يوليو، وعلى رأسها الهجمة الشرسة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته وأجهزته الأمنية ضد خصومهم من موظفين وإعلاميين وأكاديميين وقضاة ومدارس وجامعات ومراكز ثقافية.. تذكرت كل ما يتذكره أبناء جيلي من مآسٍ حدثت في الصين الشيوعية زمن مؤسسها وزعيمها الراحل «ماو تسي تونج» حينما أطلق في ستينيات القرن الماضي ما عرف بـ«الثورة الثقافية» ضد من سموا بـ«رموز الإمبريالية والرأسمالية الغربية». وبطبيعة الحال لم تكن وسائل الاتصال الجماهيري آنذاك كحالها اليوم لجهة سرعة نقل الخبر مدعوماً بالصورة الحية من موقع الحدث، لكن كان هناك، على الأقل، صحافيون مغامرون أجانب يزودون العالم بالخبر والتحليل والصورة الصامتة يوماً بيوم. وبفضل هؤلاء علمنا بتفاصيل حملة تطهير صينية وحشية طالت كل الرموز الثقافية والإبداعية مع إنجازاتهم الحضارية كافة، بحيث لم يسلم منها حتى أقرباؤهم الأبعدون من البسطاء الذين لم يكن لهم أي دور «إمبريالي أو رأسمالي» مزعوم.
والحملة التركية الراهنة لا تختلف عن تلك إلا في بعض الأسباب والدوافع والتفاصيل، لكنها تبقى حملة لا يمكن التكهن بنتائجها في الوقت الراهن على الأقل، خصوصاً وإنها تتشابه مع حملة «ماو» لجهة استهدافها منابع الفكر والثقافة ومعاقل العلم تحديداً، وتقييد حرية الآلاف من منسوبيها.
في الصين خاف «ماو» من أن يقصيه رفاقه في الحزب الحاكم عن السلطة الفعلية، ويحولونه إلى مجرد رمز لاحول له ولا قوة، عقاباً له على فشل حملته التي أسماها «الوثبة الكبرى»، التي أراد من خلالها تحويل بلاده من دولة زراعية إلى دولة صناعية في أقصر وقت ممكن، دون الاعتراف بالمعوقات الكثيرة وعلى رأسها عدم جاهزية مواطنيه آنذاك للانخراط في مشروعه الحالم، فقرر أن يتغذى برفاقه قبل أن يتعشوا به، من خلال إطلاق «الثورة الثقافية»، ودعوة الجماهير للدفاع عن النظام الثوري الحاكم. فكانت النتيجة أن استجاب الغوغاء من الطلبة والعمال والفلاحين للنداء تسبقهم نزعة الانتقام ممن عزا ماو إليهم كل أسباب تخلف الصين وشعبها، وخيانتهم لمبادئ الماركسية الثورية، ناهيك عن نزعة التنفيس والتحرك التي كانت محظورة عليهم.
أما في تركيا، فقد كان الحالم هو حزب «العدالة والتنمية» الذي لم يخفِ قط مشروعه الهادف إلى استعادة أمجاد الدولة العثمانية الغابرة. والحزب لئن نجح حتى الآن في تحقيق إنجازات اقتصادية وتنموية لا يستطع أحد إنكارها، فإن طريقه نحو تحقيق الأهداف الأخرى يظل بحاجة إلى الإمساك بمفاصل الدولة والمجتمع بيد من حديد، وهذا يحتاج بدوره إلى كنس كل الخصوم، ولا سيما الداعية فتح الله غولن وأعوانه المتنفذين والموزعين في مفاصل الدولة والمجتمع.
ومن هنا فقد كان الانقلاب العسكري الفاشل فرصة ذهبية جاءت من السماء كي يقوم الحزب بعملية الكنس والتنظيف والتطير اللازمة، إذ وجد الذريعة جاهزة وهي الاعتداء على الدستور والنظام العام ومبنى البرلمان والجماهير العزل. كما وجد شعبه وأحزاب المعارضة وقوى المجتمع المدني متضامنة معه فيما قد يتخذه من إجراءات، إنْ لم يكن حباً فيه وفي نهجه الأيديولوجي، فكرهاً للعسكر الذين سادوا تركيا سنوات طويلة في الماضي وامعنوا في خنق حريات وحقوق شعبها.
ولعل من أوجه التشابه بين حملتي ماو وأردوغان التطهيريتين أن كل واحدة منهما جاءت في إطار صراع حزبي بين من يحملون الأجندات والتوجهات نفسها حول الإمساك بالسلطة وتطويعها لمصالح خاصة، بمعنى أن «ماو» استند في التطهير والانتقام إلى ما يمكن تسميته بـ«الوصفة الشيوعية»، فيما استند أردوغان إلى «الوصفة الإخوانية»، وما بين الوصفتين قاسم مشترك هو استخدام العنف.
تقول القاعدة الفيزيائية «لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه». وقد رأينا في الصين كيف أن غطرسة ماو واعتداده بنفسه كشخص لا يخطئ، قادت ثورته الثقافية التطهيرية المجنونة في نهاية المطاف إلى أزمة تمثلت بانتشار الفوضى والتخريب والرعب والخوف في عموم أقاليم البلاد، معطوفاً على استبداد الأطياف الغوغائية التي أطلق لها العنان باسم تصحيح المسار وإنقاذ النظام الحاكم ممن قيل أنهم يدينون بثقافتهم وعلومهم للغرب الإمبريالي، الأمر الذي جعله يضطر لاحقاً إلى الاستعانة بالجيش لاستعادة النظام وهيبة الدولة، وكبح جماح الغوغاء.
نتمنى مخلصين ألا تكون مآلات وتداعيات حملة الانتقام الممنهجة التي يقودها أردوغان وحزبه، والتي أطلق فيها العنان لأنصاره كي يقتصوا بأيديهم من كل من له علاقة من قريب أو بعيد بحليفه القديم القابع في بنسلفانيا «فتح الله غولن»، مشابهة لمآلات ثورة ماو الثقافية التي اضطرت حكام الصين الحاليين، بعد نصف قرن من حدوثها، إلى الاعتذار عنها، واصفين إياها بالحدث المؤسف الذي لم يكن له مبرر والذي يجب ألا يتكرر في المستقبل.